أنوار التنيب تكتب: معلمتي… ضربتك لم تعد توجعني!
كلمة بعد النقطة
ما زلت أذكر اليوم الأول الذي داومت فيه بالمدرسة للمرة الأولى، وأنا طفلة لم تكمل سنواتها السبع. وجلست على كرسي صغير في مدرسة أشبيلية الابتدائية في منطقة كيفان. كان من حظي أن أداوم بعد شهرين من بدء السنة الدراسية بسبب بعض الإجراءات في وزارة التربية آنذاك. جئت حالي حال أي طفل يلج المدرسة للمرة الأولى، بعقل خالٍ من أي معلومة.
ففي الماضي، كان نادراً ما تقوم الأمهات بتدريس أبنائها، فيأتي الطفل إلى المدرسة كالصفحة البيضاء، وتقوم المعلمة بتدريس ما يقارب الـ 30 طفلاً في كل فصل. لذا كنت أحتاج لتدريب وتعليم مضاعف، ومن البداية، حتى أفهم ما تقوله المعلمة للطالبات واستطيع مجاراتهن. وبدلاً من أن تتفهم معلمة اللغة العربية هذا الأمر، كانت تصرخ بوجهي طوال السنة وتلقبني بـ «البلوة»! لأنني أصبحت عائقاً كبيراً أمامها.
والغريب أنني في آخر العام نجحت جوازا. وانتقلت معي المأساة نفسها من فصل إلى آخر، حتى وصلت إلى المرحلة المتوسطة وبدأت تواجهني مشكلة أخرى مع معلمة اسمها فاطمة تدرس المادة نفسها. كانت من أقسى المعلمات في مدرسة نائلة، وكانت لا تتعامل إلا بالضرب، ولا تفرق بذلك بين طالبة متفوقة أو طالبة ضعيفة، حتى كرهتنا بمادة اللغة العربية، وصارت رابطاً ذهنياً مملوءاً بمشاعر الألم، بسبب ما سببته لنا تلك المعلمة من أذى جسدي ونفسي.
بعدها انتقلت إلى المرحلة الثانوية، وقررت وقتها أن أبدأ في تحد مع ذاتي للتغلب على العقدة التي تراكمت بداخلي. فاتبعت طريقة سهلة وهي أن أضع برنامجاً يومياً لنفسي… ساعات معينة أتصفح الجريدة وانتقي ما يعجبني من مواضيع لقراءتها، حتى اعتدت على هذه الطريقة وأحببتها، وصارت تلك الصحيفة وجبتي اليومية التي لا استغني عنها أبدا. وهنا لاحظت بوادر التغيير لدي، ووجدت نفسي أصادق القلم وأكتب ما يجول بخاطري من أفكار ومشاعر بكل أريحية وشغف.
في هذه الفترة منّ الله علي بمعلمة فلسطينية أسمها سوسن الدجاني، قامت بتدريسي مادة اللغة العربية في آخر سنة دراسية في ثانوية كيفان العامة، وكانت من أروع المعلمات اللاتي مررن علي في تدريس تلك المادة. وأذكر ردة فعلها في المرة الأولى التي قدمت لها «خاطرة» كتبتها بلغة بسيطة عن القدس. ابتسمت لي وقامت بتصحيح الأخطاء النحوية، ثم طلبت مني إلقاءها أمام جميع طالبات المدرسة خلال الطابور الصباحي كتشجيع لي. واستمرت في دعمي وتشجيعي حتى نهاية السنة. وفي الأيام الأخيرة من العام الدراسي وقبل مغادرتنا المدرسة، كانت ممن يعز علي فراقهن، لذا أعطيتها مذكرتي لتكتب لي كلمات للذكرى لا ازال أحتفظ بها لهذا اليوم.
وأذكر عندما قرأتها شعرت بالسعادة تغمرني، حيث بثت في روحي الأمل بأن أكون يوماً ما ممن يفخر بهن الوطن، حيث كتبت «إن البذور تحتاج إلى رعاية فائقة لتؤتى أكلها ثماراً يانعة. وأنا ألمح فيك بذور إبداع تريد من يأخذ بيدها يا أنوار… واسقيها من ينابيع الثقافة المختلفة. وأنا على ثقة بأن أرى أنوار في المستقبل القريب بإذن الله تعالى من اللاتي يفخر بهن الوطن… فإلى الأمام… والله معك».
وقبل الختام أقول:
لمعلمتي التي كانت تصرخ في وجهي كل يوم «يا بلوة»…
ولمعلمتي التي كانت تضربني طوال السنة حتى قطّعت يدي…
ولمعلمتي سوسن التي أعانتني على إعادة الثقة بنفسي…
جميعكن تركتن شيئاً في نفسي، بتعابير وجوهكن التي تحتفظ بها ذاكرتي! فمنكن من تركت جرحاً «غفر الله لها»، ومنكن من تركت عبقا «فشكراً لها»، وأبشركن بأنني سعيدة جدا بما أكرمني ربي، وبما وصلت إليه الآن. وربما لا تقرؤون مقالي هذا، ولكنني في الحقيقة أوجهه كرسالة وتذكرة لكل معلم ومعلمة في وطننا العربي أجمع…
سيبدأ العام الدراسي الجديد قريباًـ وفي بعض المناطق بدأ فعلياً. تذكروا إن بإمكانكم أن تتركوا بصمة مؤذية تشبه «العصا» في نفوس التلاميذ، أو تتركوا عبقاً جميلاً يظل في النفس حتى آخر رمق في الحياة، وربما ينشىء بين يديكم عالما أو طبيبا أو شاعرا أو أديبا يهز العالم بقلمه!
أنوار التنيب