مطلق الحرية وضوابط الانسانية بقلم الشيخة حصة الحمود السالم الحمود الصباح
تمثل الحرية جوهرة التاج الإنساني وهى أقدس القيم الإنسانية وأعظم المنح الإلهية والنعم الربانية وهى التى جعلت الشاعر الهندى الكبير طاغور يشير إليها بقوله ( أنا أعبد الله وأؤمن به لأنه أعطانى الحرية فى أن أكفر به ، ولم يمنعنى رزقى فعلمت أنه إله حق ). نعم الحرية نعمة عظيمة وأيضا أمانة ثقيلة فهى كالماء الذى يروى شجرة الإنسانية لتؤتى أكلها من الإبداع الذى يُثرى الحضارات البشرية.
ولكن ثمة فارق كبير بين الحرية المطلقة والحرية المنضبطة ،فالأولى هى نوع غير ملتزم بوعى ثقافى حقيقى وضوابط شرعية وأعراف مجتمعية و للأسف غايتها الفوضى وقد تتحول بالتدريح إلى شر مستطير لا تؤتمن عواقبها ، هى نوع من اللا منطق والخرافة التى تقتحم حدود حريات الآخرين وتعكر صفو العلاقات الإنسانية الراقية ، هى وهم أشبه بكرة الثلج التى تكبر مع إنحدارها اللا أخلاقى غير مكترثة بأى معايير ملزمة للفرد فى إطار الكيان المجتمعى.
أما الحرية المنضبطة المسؤولة فهى المعنى الحقيقى للحرية فى المفهوم الإنسانى ، هى التى تحدد حقوق كل فرد وواجباته ، ما له وما عليه وهى فى المفهوم الإسلامى الإنسانى مقترنة بأحاديث النبى (صَل الله عليه وسلم ) لا ضرر ولا ضرار ،وأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ، هذه الحرية المنضبطة هى المفهوم الحقيقى للحرية المغلفه بالتواضع والإلتزام والمسؤولية وهى التى تخلق التوازن بين المسؤولية الفردية والمسؤولية المجتمعية ، وقد أوجزها الأديب الروسى الشهير ليو تولستوى حينما قال (ليست الحرية هى أن تفعل ما تريد ،ولكن الحرية هى أن تريد ما تفعل ) بمعنى أن الحرية هى أن تمتلك أسباب ومبررات ما تريد فعله قبل أن تفعله حتى يكون كل فرد مسؤول عن أفعاله أمام المجتمع وهذا لا ينتقص غالبا من الحرية الفردية والتى تختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى ومن حضارة لأخرى لأسباب دينية وجيوسياسية وعادات وتقاليد محلية يصل بعضها للأسف إلى السلطوية التى تسلب الناس الحد الأدنى من حرياتهم وهذا منطق إنسانى مرفوض قطعا.
الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط بدوره يرى أن الحرية تنقسم إلى قسمين الحرية السالبة والحرية الموجبة ، فالحرية السالبة هى الحرية الفردية التى تسمح لصاحبها بأن يتحرر من قيوده الفكرية بحثا عن المعرفة ، والحرية الموجبة هى حرية المجتمع بأكمله والذى يسمح لأفراده أن يعبروا عن ما يجيش بصدورهم من آراء وأفكار تخلق مساحات للإبداع والتحرر من الجمود ، وهذا النوع الأخير نجده فقط فى المجتمعات المتحضرة والمتقدمة فى الجوانب الثقافية والعلمية والسياسية والإجتماعية وهى ثمرة الكفاح المرير بين الفرد ومؤسسات المجتمع المتسلطة فكريا والمهيمنة معرفيا والمحتكرة للقوة والحقيقة ، فقد طلبوا الحرية وكافحوا من أجلها ونالوها وحق لهم أن يتمتعوا بها.
وللأسف فى مجتمعنا العربى نفتقد للمفهوم الحقيقى للحرية والتى رسخها ديننا الإسلامى الحنيف وسبقنا إليها آخرون ، الحرية فى عالمنا العربى فى مأزق كبير بسبب ضيق الأفق والفهم السقيم لمقاصد الشريعة من رحمة و مساواة ومسؤولية فردية وإحترام حقوق الآخرين فى العقيدة والمذهب والتوجه الفكرى ، الحرية الحقيقية هى التى تنطبق عليها المقولة الشهيرة ( أنت حر ما لم تضر ) ، الحرية الحقيقية هى الحرية المنضبطة بضوابط إنسانية لا تعطى لأحد توكيلا ليفتش فى ضمائر الناس ويحاسبهم على ذلك وفق الأهواء والميول والتوجهات ، الحرية الحقيقية هى الدين النصيحة والوعظ والإرشاد ، لا ينبغى علينا أن نشوه معنى الحرية المنضبطة لنتسلط على بعضنا البعض ، وعلينا أن نوجه أبناءنا وشبابنا وننصحهم ونرشدهم الى ما يناسب ديننا و مجتمعاتنا من قيم ومثل عظيمة تحب الخير للبشرية جمعاء وتجود بما يعظم ما هو متفق عليه إنسانيا.