كتاب أكاديميا

أسماء السكاف تكتب: صعلوك


وضعتُ عمامتي على رأسي ولبستُ العباءة ذات القماش الفاخر وتطيبتُ بمسكٍ له رائحة نفاذة وكأنه استُخرِج للتو، أحضره لي أحد التجار كهدية من آخر سفرة له، خرجتُ ماشياً لسوق المدينة لأشرف على أعمالي ومحلاتي لاحقتني النظرات التي اعتدت عليها وسمعت بعض الهمسات عن شعري المنسدل المُرجَّل وعن رائحة عطري التي تسبقني، أحرص على مظهري وأهتم به بدقة تماماً كما أهتم بعلمي وعملي، أحب أن أوازن بين أموري لأنني أحب ذاتي، مشيت إلى أن وصلت إلى سوق المدينة، شعرتُ بعينانِ تلاحقانني أمعنتُ النظر وإذ بها سيدة عجوز تجلس وتضع منديلا أمامها عليه صدفٌ وأحجار، ضحكت في سري لسخافة العرَّافات وسخافة من يستمع لهن، تجاوزتها بخطواتٍ طويلة، التفتُّ لها فجأة لا زالت تنظر لي تتابعني بنظرها مذ دخلتُ السوق وتهز برأسها بأسى، لم أقاوم فضولي وغضبي الخفيف المكظوم رحت لها: ما بك أيتها العجوز لم تنظرين لي؟ همست وقد أطرقت برأسها: صعلوك صعلوك ستُمسي صعلوكاً لو لم تُغيِّر هذه الخصلة فيك، صرخت بها: انتبهي لألفاظك يا خرقاء، أية خصلة؟ لم تبالِ لكلامي وأكملت حديثها بذات الصوت المنخفض كأنني لم أصرخ: سيذهبُ كلُّ شيءٍ وستتصعلك وحتى الصحة ستذهب ولن تقبل بك حتى رميصاء،

(رميصاء هي إحدى نساء المنطقة الكبيرات دميمة جدا اشتُهرت بين الجميع بقباحة خلقتها وبذاءة لسانها وقذارة المكان الذي تسكنه)، لم أتمالك نفسي عن الضحك بصوت لفت أنظار كل من هو قريب، مشيت وأنا أقول : امرأة خرقاء أضعت من يومي دقائق بلا معنى، كنتُ أسمعها تتمتم: خِصالك تعرفها جيداً وأعرف أنك تفهم ما أقول ستُمسي صعلوكاً ثق بي لن يطول وضعك الذي يُعجبك بالاستمرار، أدرتُ ظهري ومشيتُ محاولاً عدم الاكتراث بكلامها فهي مُجردُ عرافة تسترزقُ من الكذب على المغفلين، ولكن شيئاً ما بداخلي بدأ بالارتجاف تماماً كفرخٍ صغير في شهر يناير، هل هو الخوف؟ هل صدقتَ كلامها يا أنا؟ أسرعتُ الخطى لأبتعد عنها رُغم يقيني بأنها تلاحقني بنظراتها وتتمتم بكلامٍ لا أسمعه ترثي لحالي، أنا صاحب التجارة والأعمال والصحة والجمال والحسب !!

استيقظت على صوتِ المنبه يرن بتواصل مزعج، كنت أتصببُ عرقاً وأرتجفُ بآنٍ واحد، تدَثرتُ جيداً، تلَّمستُ أطرافي ونظرتُ حولي مُحاولاً استيعاب مكاني، على السرير الأبيض الأنيق مُتلحفاً بالأغطية البيضاء الدافئة، إذاً لستُ في سوق عكاظ أو مجنة أو ذي المجاز، قفزتُ إلى المرآة لأنظر، شعري مُرتب مقصوص بطريقة أنيقة وذقني حليق، فتحتُ النافذة لأستنشق الهواء البارد وأحمدُ الله أن ذلك لم يكن سوى كابوس مُزعج.

وقعت عيني على الساعة أدركتُ أن الوقت لا يسمح لي بمزيدٍ من لحظات الاسترخاء، أنا في بيروت وصلتُ البارحة لتمثيل مؤسستي في أحد أهم المؤتمرات التي تعني بالمواد الغذائية (مجال اختصاصي وعملي) بعدساعةٍ من الآن موعد تقديمِ ورقتي، ارتديتُ بذلتي الكحلية وعقدتُ ربطة العنق البنفسجية التي أهدتني إياها إحدى الجميلات في أحد الأعياد، رششتُ من عطري على عجالة وكعادتي لم أبخل على نفسي برشَّاتٍ إضافية لتسبقني رائحة عطري وتُنبئ عن وصولي قبل أن أصل.

ركبتُ السيارة مُغادراً الفندق الذي أنزل فيه (رمادا بلازا) سائلاً الله التوفيق رغم عدم ارتباكي فأنا رجل هذه المواقف، لا أبلغ ولا أفصح مني عندما أُسهب بالحديث عن أمرٍ ما وأسترسل فسنوات عمري التي أمضيتها بالتدرب والتعلم لن تذهب سُدىً، أنزلني السائق في بداية طريقٍ فرعي مُرتب تتوزع فيه المزروعات والزهور يمنةً ويسرة بشكلٍ أنيق، أشار بيده لقاعة قريبة كالقصر في نهاية الزقاق وقال: هذه القاعة المطلوبة يا سيدي وللأسف غيرُ مسموحٍ للسيارات بالتقدم مسافةً أكثر من هنا، شكرته ونزلت أمشي وأحمل حقيبة أوراقي، شعرتُ بلسعة بردٍ جميلة، قبل أن أدخل القاعة شعرتُ بإحساسٍ غريب لا يُمكنني وصفه، نظرتُ حولي وإذ بعجوزٍ بعيدة تجلس على أحد الأرصفة المُقابلة لصخرة الروشة تُعطي ظهرها للصخرة ووجهها للقاعة التي أود الدخول لها الآن، تنظُر لي، هل أتوهم نظراتها التي تُلاحقني أم أنها فعلاً تُلاحقني، حاولتُ المناورة لأكتشف، خلف احد الأسوار مشيت ثمَّ ظهرت من مكانٍ آخر لا زالت تلك العينين اللعينتين تلحقان بي أينما تحركت، ذهبتُ لها مُسرعاً وإذ بنفس عيني تلك العجوز بذلك السوق الجاهلي الذي كنتُ فيه صباحاً، ارتعدت أطرافي ولكني استجمعتُ قُواي وعقلي وذكائي، أنا الذي لم أؤمن يوماً بشيءٍ من هذه الخرافات لم يخطر ببالي أن أقرأ يوماً صفحات الأبراج التي يُطالعها الكثيرون أخاف الآن من عجوزٍ بالية، كانت تماماً كتلك العرافة تضعُ أمامها منديلاً مليئاً بالأحجار والصدف والأشياء البالية، نظرت لي بإطالة وقالت: لو لم تعِ ما سأقول ستُمسي صعلوكاً، لم أدعها تُكمل ركضت بكل ما استطعتُ من سرعة مُحاولاً عدم التركيز على الكلام الذي رفعت صوتها لتُسمعني إياه: لا هروب من القدر يا فتى ولو وصلت الصين، دخلتُ القاعة على عُجالة دخلت على وقتي تماماً، رحبَ بي المُنظم وحيَّاني الجميع بابتسامات مُتفرقة، دون إدراكٍ أو استدراك وجدتني على خشبة المسرح لأشرح فكرتي وخطتي التطويرية، سمَيتُ الرحمن وبدأت، نسيتُ كل شيءٍ، أشعر بارتباكٍ حقيقي، لم تُسعفني الفصاحة ولا الذاكرة، تعلَّلتُ بظرفٍ صحي كاذب وغادرت، وإلى المطار فوراً، لم أحاول التكلم مع تلك العجوز أو حتى النظر لمكان جلوسها، بداخلي خوفٌ كبير، رجعتُ لحياتي ولكن ليس كعادتي لم يبقَ معجمٌ ولا مكتبة لم أزرها لأبحث عن معنى صعلوك! قرأت عن الصعاليك بكافة أشكالهم وعلى مرِّ الأزمنة كيف كانوا وكيف صاروا، أذكر أنني لمحتُ يوماً على أحد وسائل التواصل الاجتماعي رجلاً أو امرأة باسم صعلوك أو صعلوكه، دخلتُ الصفحات لأكتب ذلك الاسم الذي يؤرقني وإذ بالعديد من الصعاليك هنا في عصرنا الحالي، هل تصعلكوا من تلقاء أنفسهم أم أنَّهم لم يستمعوا لنبوءة العرَّافة وكلامها فأصبحوا صعاليك؟

كلَّمتُ البعض منهم ولم أجد جواباً فأنا شخصٌ غريب لهم وبالطبع لن يبوحوا لي بأيِّ مكنون وسر.

مضت سنةٌ تقريباً أمضيتُ حياتي بشكلٍ كنتُ أظنه اعتياديا، أظنني ذبُلت قليلاً، ربما لأنني خففت من ضغط مهامي التي كنت أمارسها يوميا أو ربما لأنني منذ عام تقريبا توقفتُ عن الركض اليومي فتعبت عضلات جسدي المشدودة وارتخت، الصعلكة والصعاليك الذين قرأتُ عنهم وتلك العجائز التي رأبتهن وأظنهن واحدة فقط ولكنها ظهرت لي بنومي ويقظتي لا يغادرون رأسي وفكري، لم أُخبر أحداً بما حصلَ معي ولا عن بحثي السخيف لأنني ببساطة سأبدو سخيفاً، سأنزل من عين نفسي قبل أعين من حولي.

في أحد الصباحات قررت العودة لبيروت سأذهب لأراها وأسألها سأجمع كل طاقتي وقوتي ودهائي وأنظر في عينيها.

في مطار بيروت ختمت لي الموظفة الجواز وابتسمت: شرَّفت يا عم، يا عم يا عم كررتها باستغراب ذهبتُ لدورة المياه لأنظر بأقرب مرآة وأدقق بملامحي، نفس الملامح ولكن بشكلٍ أكثر شحوبا، انتبهتُ لذقني الذي طالت شُعيراته بشكل غير مهذب وشعري طال أيضا دون أن أنتبه، أحسستُ أني أشبه ذلك الوسيم الذي كان في السوق الجاهلي ولكن بشكلٍ غير وسيم، نظرتُ لثيابي التي لم أعتنِ بها كعادتي كل بداية شتاء باختيار أجمل وأنعم وأرقى الأصواف لأتجمل بها، كنت ألبس معطفاً سميكا بلونٍ زيتي أعطاني عُمراً أكبر من عمري.

وصلت لمقابل الروشة أبحث بنظراتي حتى وجدتُ صبية تبدو بالعشرين تجلس وأمامها ذاتُ المنديل والأحجار، ابتسمت وقالت: أهلا يا صعلوك، أفزعتني ولكنني استجمعت قواي وسألتها عن تلك العجوز، أجابتني أنها جدتها وأنها ورثت منها التبصير والفراسة والنبوءات التي تتحقق.

قبلَ أن أُغادر حلقت لحيتي وقصصت شعري ولبستُ ثيابا تليق بشبابي وقررت ترك النبوءة بمكانها وأرضها، تغيرت فيني خصالٌ عديدة في هذا العام لا خصلة واحدة، غادرني الكثيرون ممن حسبتهم أصدقاء ولم يتحمَّلوا التغير الذي طرأ علي.

في الطائرة أمسكتُ إحدى المجلات وقعت عيني على صفحة الأبراج فأغلقتها قائلاً لنفسي: من يقربها مفقودٌ مفقود، من حاول فكَّ طلاسمها مفقود، مجرد القرب من معرفة المستقبل وخفاياه يُدخِلُ في دوامة الله وحده أعلم كيف يمكن للمرء الخروج منها.

دخلتُ بيروت صعلوكاً وغادرتها شاباً سيُكمل من منتصف الطريق الذي وقف فيه قبل عام.

 

أسماء السكاف

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock