د. سعود محمد العصفور يكتب: روعة اللغة العربية
كتبت إلى حبيبة، حروفها عجيبة، ألفاظها من عُجْبِها غريبة، تختال في كل روض، كباسقة نخل، عذوقها دانية، تزدان بها كل آنية، طابت لكل ذائق، ودانت لكل حاذق، فقلت:
أضاعتني حروفك، وكبلتني ألفاظك، وسحرني أبد يومي جمال سَبْك عباراتك، فوقعت في شباكك، فيا لك من غاوية فاتنة. ليتني وأنتِ في قارب واحد، دوننا الأنام في بحرهم، ولجتنا تمزق أشرعتهم، تقلب مراكبهم، فتحيلها حروفاً مبعثرة على شواطئ النسيان.
جمالك ألبس الدنيا وشاح الرائق والفتون، وقلَّبَ الزمان فوق سطور لم تكتب، فتاه عقل من تصوَّر وتعقَّل، فاجتال فكره، وسبح في بحور خياله، لعله يصل إلى منتهى، ويقف عند مرافئ السكون.
جناس ناقص، وطباق تام، تلك أحجية لم تُفْهَم بَعْدُ، بَعُدَ الخبر، وجاء المبتدأ طليقاً، حررته يد العدالة وحروف الهجاء، لم يعد مكبلاً بقيود الترادف، وسار والنعت يصفه بأجمل النعوت والصفات.
لا أبرح عابثاً في كل فكرة تقتحم عليَّ سكوني، حتى إذا ما استجمعت ألفاظها، ودنت مني معانيها، استهوتني بعثرة حروفها، فنثرتها خيالاً سابحاً في فضاء فسيح، تتطاير لتتجمع حيناً، وتتفرق أحياناً لتشكل سحائب صيف غايتها مطر غزير.
يا ويح قلبي، سِرتُ في معانيك الغلقة، استهوتني، وما برِحَتْ تصارعني، فلفظة أركبها، ولفظة أضحى مطيتها، مطواعة أنتِ، بكل غَلْقٍ ومفتاحه، بكل مفردة جاءت وأختها في التفسير توأمين.
أذهلتني حُللك القشيبة، فتارة أرقبها في تيهها واتعشق جمال نَسْجِهَا، وبديعِ زُخرفها، وتناسقِ ألوانها، فيغشاني الشوق إليك، فأتمثل أني وهو في هواك ضحايا، قتلنا البعد مذ كان. عجباً لقلبين في هواك كيف يصطرعا، وفي حُبكِ كيف يجتمعا.
في ميادين الرفعة أنتِ، في قرآن ربي، في متون نظم الفحول، وفي نثر خطب الواعظين من الحكماء والرائقين من الأدباء، في كل مفردة لك حكاية، تعز على من كان جاهلاً في زمان العُربِ.
حزتِ المراتب العالية، وصنعتِ كل ذائقة، وسموتِ فوق كل غاية، فكنتِ البداية والنهاية، وتربعتِ عرش كل راغب، وتركتِ حلاوةً في فم كل ناطق وسامع.
يا سعد من نطق، ويا فوز من استمع، ويا روعة من بمداده كتب، لك الأرواح تهفو وتسمو، وبك الأنفس تصفو وتزهو. استعلىٰ بك اللسان حَنَكاً، وزانك الإعراب نَسَقاً، وشَدَدْتِ زِمَامكِ بالاشتقاق، وغنىٰ لفظك بجميل المعاني، وحوت حروفك جزيل الإفادة، وزانت أساليب الخطاب بالتقديم تارة، وبالتأخير تارة.
شاعرية حالمة أنتِ يا عربية بالتشبيه والكناية والاستعارة والإشارة، فيا روعة من كنى وشبه، وأشار واستعار ونبه. زانك المجاز رقة، وكثرة الترادف خفة.
وطفق الإعراب يمضي حكمه، يتراقص فوق الحروف وتحتها، فيضمها إليه، ويحركها رفعاً، ويجرها سَفْلاً، ويعليها نصباً، ويسكنها بلا حراك، ويشددها بلا اضطراب، وينونها رنيناً رائعاً.
رائعة، آسرة أنتِ يا عربية، بك الألفاظ زاهية، ولك العقول واعية، مهما كتبتُ فلن أجد لكِ في الحنان أماً، ولا في الجمال أختاً، أنتِ كما أنتِ، فتنة الكتَّاب، وقصد الناظمين والنُثَّار، وزينة منطوق كل مجلس.
نقل عن القبس