كتاب أكاديميا

أسماء السكاف تكتب: تشابه أسماء

 

غادَرت العائلة البلدَ بدون أي شعورٍ بالأسف على الترك والمغادرة، وصلوا إلى ميونيخ بتأشيرات دخولٍ سياحية طلال وزوجته وأطفالهم الأربعة، وصلوا إلى عالمٍ آخر مختلفٌ تماما عن أي شيءٍ عاشوه ورأوه من قبل، استأجر الوالد غرفةً بما جمعه من مالٍ بعد بيعه لممتلكاتهم كافة، استأجر عند سيدة ألمانية عجوز، رغم الأسى الواضح على وجهها والفراغ الذي يُقرأ من ملامحها ورغمَ أنه سمِعَ أن الشعب الألماني غير ودود، حذَّره الجميع منهم رغم أنهم لم يحتكوا بهم سمعوا فقط، وبالتالي بنى صورةً نمطيةً مسبقة عمَّن سيتعامل معهم، إلا أنه رآها عجوزاً طيبة ودودة بشوشة نوعا ما، رحبَّت بهم مشت بهم كدليل إلى الطابق الأعلى حيث حجرتهم وأعطتهم ما يحتاجون من أغطية وغيرها وشرحت لهم ما يحتاجون بإنجليزية ركيكة جدا تتناسب مع انجليزية طلال وأسرته، مضى اليوم الأول سريعاً جدا حيث لم يخفت وميض الانبهار بعد بعيونِ أسرةٍخرجت من بلدٍ مُدمرٍ تقريباً وتحديداً منطقتهم كانت قد أبيدت كلها ماعدا بضع مبانٍ أصرَّت على الصمود ربما لصلابة أحجارها، أُسرة خرجت من الركام والموت والصراخ إلى ربوع أوروبا والريف تحديدا حيث الهدوء وصوت الطبيعة المريح للأعصاب يلف المكان، كان المكان أشبه بحلم أو جنة، عندما خيَّم الليل بنسماته الباردة واستلقى طلال على سريره لينام، أغمض عينيه وتذكر لحظة اعتقاله وكمية العذاب والألم التي تعرَّض لها ليعترف بشيءٍ لا يعلم عنه شيئا، تذَّكر جيداً كيف كان يصرخ قائلاً: أجل أجل أنا فعلت كل شيء ولكن بحق الله والأنبياء توقفوا، طلب منه المحقق يومها بعض التفاصيل، كان مستعدا ليقول أي شيء ويعترف بأي شيء ولكنه فعلاً لا يعرف عمَّا يتحدثون ولا ماذا يريدون قال لهم يومها: قولوا لي ما يجب أن أقول وسأقوله بدقة، أكل ضرباً وعذاباً إضافياً والمحقق يصرخ فيه: أتقصد أننا نظلمك ونتهمك بما لم تفعل، ما رأيك لو استضفنا زوجتك هنا معنا لنرى هل ستُصِّر على الإنكار وقتها أم ستنطق؟ ، لا يدري كم من الوقت مضى عليه في الداخل، أَحسَّها سنوات ولكنهم أخبروه عندما خرج بأنه أمضى شهرين في الداخل، تذَكر يومَ استدعوه للتحقيق للمرة المليون ناداه السَجَّان بعدَ ليلةٍ أمضاها ساجداً يتضرع إلى الله أن يُخلصه مما هو فيه، وصل لمكتب الضابط وهو يُهيئ نفسه لكل أنواع التعنيف اللفظي والجسدي والنفسي إلّا أنه تفاجئ بالمحقق يبتسم كثعلبٍ ماكر ساخر ويقول: اعذرنا يا طلال قلبك كبير ما حدث تشابه أسماءٍفقط، لا تأخذ عنَّا فكرة سيئة، خرجَ من المبنى بعدَ أن كبِر عشرون عاماً وانكسرت بداخله أشياء تحتاجُ معجزةً لترميمها لتعود روحه صالحةً للحياة، أخبره الطبيب في المستشفى الذي ذهب له فور خروجه أن إحدى كليتيه لم تعد صالحة، بصوت خفيض قال له: سأكتب أنك وقعت من أعلى السلم فصُدمت خاصرتك، ضحك طلال بألم وقال: اكتب أي شيء ولكن أعطني مُسكناً، بعد خروجه صار الخوف والحذر رفيقيه ورفيقي أولاده وزوجته، من يومها قرَّر الخروج إلى غير عودة إلى أي مكانٍ يحترم الذات الإنسانية، وبعد عقباتٍ كثيرة ومحاولاتٍ عديدة مُحاطة بالحذر وبيع ممتلكات وعملٍ مُضاعف غادر مع أسرته الصغيرة إلى بلدٍ قريب ومنه استخرج التأشيرات وطار بصغاره وأمهم فوراً إلى ميونيخ في ألمانيا.

فتح طلال عينيه بعد لحظات إغلاقٍ وذكريات ليجد وسادته مبلَّلة بالدموع التي لم ينتبه لها كيف هطلت بهذه الغزارة حتى بلَّلت الوسادة، حمدَ الله ونظر للصغار وأمهم ينامون بهدوء حتى خُيِّل إليه أنهم يبتسمون فلا أصوات قصفٍ وقذائف تُفزعهم ولا مداهمات ليلية تؤرقهم، بعد مُضي شهرٍ على استقرارهم وانتقالهم لبيت أوسع خاصٍٍ بهم له حديقة صغيرة تزرع فيها زوجته بعض الخضار والأزهار، باشر طلال عمله في إحدى الشركات القريبة بشهادة الحاسب الآلي التي يحملها معه وبدأ الصغار دوامهم في مدرسة المنطقة، جلس ذات مساء في حديقة بيته ليكتب مذكرات العام الفائت فلم يكن يُريدها أن تُنسى ومع الراحة التي يشعر بها أحسَّ أن بعض التفاصيل بدأت تتلاشى من الذاكرة وهو ما لا يريده، كان يرغبُ بتدوين كل شيء المؤلم قبل المفرح ربما لشعورٍ ضمني بالذنب في داخله بالهجرة والاستقرار ببلدٍ غير إسلامي وببيئة ومجتمعٍ بعيدٍ تماماً عن أي هوية إسلامية أو حتى عربية، كان يرغب بذكر المبررات القوية لنفسه وتدوينها لإظهارها في حال تعرَض لأي لومٍ في المستقبل من أبنائه أرادهم أن يعرفوا أسبابه.

في بداية الصفحة كَتَب: يا تُرى هل كنَّا بحاجة إلى كل هذا الكمِّ من الخراب والدمار والألم والعذاب حتى نتخذ خطوة كهذه؟

هل كان علَّيَ أن أدفع ثمناً باهظاً كالذي دفعته لأتخذ قراراً بالانتقال لبلدٍ حيطانه بلا أذان؟ هل اختياري لأبنائي بيئةً سليمة نفسياً وجسدياً وصحياً ولكنها مُرهَقةً دينياً بعيدةً عن دينهم هل يُعتبر هذا اقتلاعاً لهم من الجذور؟ أم أنه زراعة جيدة لهم بتربة أكثرَ رياً؟

عندما تقرؤون يا صغاري ما أكتب الآن ستعلمون يقيناً أنني كنت بوضعٍ لا أُحسد عليه، لا أستطيع حتى الشعور بالندم على اتخاذي خطوةً كهذه، سأعمل جاهداً على تثبيت أُسس دينكم بدواخلكم رغم صعوبة المهمة هنا، رغم أن الكمال غيرُ موجودٍ في هذا البلد مع بعض العنصريين ممن يحقدون على المسلمين ولا يكرهونهم فقط بل أشعر ببعض النظرات ترغب بإضرام النار بنا إلا أن الوضع بالنسبة لي بتجاهل هذه النظرات أسهل من أن أفقِد أحدكم بقذيفة أو أن أُعتقل مرة أخرى وعوضا عن كليتي أخسر حياتي هذه المرة وتبقون بلا أب.

ربما الحرب كانت خيرا لنا لنرى هذا الجانب الآمن من العالم فلولا الحرب لما فكرت أبدا بالمغادرة رُغم كل الجوع والتعب والخوف الذي كان يُرافقنا حتى قبل الحرب، لَكَم سأسعد لو بلغتم سن الرجولة والشباب بعلمٍ ودين وسلامٍ داخلي، لن أُجبركم على العودة للوطن فباعتقادي الوطن هو المكان الذي نملك فيه ذكرياتٍ هو المكان الذي احتضن طفولتنا وشبابنا هو المكان الذي قدَّم لنا وبالتالي نستطيع إعطائه عندما نكبر سنعطيه بحبلأنه أعطانا الحب، قد لا يتفق معي الكثيرون بهذا الرأي فالوطن بالنسبة للأغلب جذور ودماءٌ نحملها بشراييننا ورَّثها لنا والدينا من أجدادنا وأسلافنا، أنا قمت بالانتقال بكم وزرعكم في هذه الأرض بعد أن استخرت وفكرت ورأيته الحل الأسلم.

والدكم المحب/طلال

 

أسماء السكاف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock