قسم السلايدشو

‫د. نجمة إدريس: مؤسسة النشر أصبحت مؤسسة تجارية في المقام الأول

ماذا لو قيل لطه حسين إننا لا يعوزنا رفيق ليقرأ علينا كتبه، فنحن نصغي إليها على مواقع اليوتيوب والساوند كلاود ممدين في أسرّتنا، أو مسندين الظهر إلى مقعد وثير؟ ماذا لو توافر على عهده حينما منع كتابه «في الشعر الجاهلي» نسخ من «البي دي إف» يطالعها الجمهور عبر أجهزته النقالة؟ الكتاب لم يختفِ كما كان البعض يتخوف، بل تنامت صوره وتعددت، عادات القراءة، العلاقة الحميمة بملمس الكتاب، الشعور بالرهبة أمام مغلفه السميك على رف في مكتبة. ترى كيف هي خبرة الأجيال المختلفة من الكتاب في علاقتها بـ«خير جليس»؟ ماذا قرأوا أول الأمر؟ ما الذي دفع بهم إلى عالمه الساحر وجذبهم ليكونوا ضمن جوقة صانعيه؟ أمس واليوم.. كيف اختلف عالم النشر والعلاقة بالمكتبة الخاصة؟ تلك وغيرها أسئلة نطرحها على أجيال من الكتاب يعكسون بدورهم صورا من تطور العلاقة بالكتاب وبإنتاجه وتلقيه.

يكتسب الحوار أهميته مع د. نجمة إدريس ليس فقط لأنها أحد الأسماء المهمة والفاعلة على الساحة الثقافية الكويتية، ولكنها أيضا اكاديمية وشاعرة وناقدة تغطي كتاباتها مساحة كبيرة من انشطة وإنتاج هذه الساحة، في هذا الحوار الذي مع إدريس تتحدث عن الواقع الثقافي عربيا ومحليا وعن أزمة الكتاب والنشر وإشكالية النقد.

مشكلة الكتاب، والناشر، ومعوقات النشر، ما أبعاد المشكلة، التي كثيراً ما تُثار، في نظرك؟

ـ أعتقد بأننا نحتاج إلى مؤتمر أو حلقة نقاشية موسعة لحصر المشكلة ومعرفة أبعادها. فالمؤلف يشتكي، والناشر يشتكي، ومؤسسة النشر تشتكي، من دون التمكن من إمساك القط لتعليق الجرس في عنقه. في البدء أرى بأن هناك مشكلة في تسويق الكتاب. ليس لأنه لا يوجد كتاب جيد، وإنما بسبب غفلة الناشر عن الكتب الجيدة والأقلام النادرة أو الواعدة. فالناشر- للأسف- لا يقرأ المخطوط باهتمام وتجرّد، أو لا يسلمه لجهة متخصصة تقيّمه وتتلمّس جوانب التميّز فيه. وغالباً لا يستجيب الناشر للأسماء التي لا يعرفها، أو الأسماء قليلة الحظ في الشهرة والحضور، وقد يضيّع على نفسه فرصة اكتشاف عمل قيّم بسبب هذا التقاعس والتجاهل. بل بات تقديم كتاب للناشر والنظر في شأنه، يحتاج إلى وساطات وتوصيات، ومعرفة بشلة من الوسط تعين على تمرير المخطوط، ليحظى بكرم الاطلاع والفحص!

هناك أيضاً جهل في أسلوب تسويق وعرض الكتب المتميّزة، فكل الكتب سواءٌ في طرحها على الأرفف، وفي تكديسها في الغبار. حتى حفلات التوقيع، غالباً ما تستقطب الأوفر حظاً في العلاقات الاجتماعية، والأكثر تلميعاً لهيئته وصورته في وسائل التواصل، وليس للأكثر قيمة وإبداعاً.

وحين ننظر إلى مؤسسة النشر، سنجد أنها مؤسسة تجارية في المقام الأول. تدخل مع المؤلف في حوارات مذلّة حول الكسب والخسارة، وحول فائدة السلعة أو كسادها. وهذا أمر لا بأس به من منظور الجدوى الاقتصادية، ولكن ما نلحظه، أن المؤلف هو الذي يخرج خاوي الوفاض من هذه الصفقة الضيزى. وإن ربح من وراء عرقه وكدّه بعد لأْي، فلن يخرج ربحه عن الفتات. بل حتى في حالة فوز الكتاب بجائزة مالية من مؤسسة معتمدة، فسرعان ما يستحوذ الناشر على نصيب الأسد من هذه الجائزة!

حين أتأمل في أوضاع النشر عندنا، يباغتني السؤال حول كيف أصبح الكتّاب في الغرب ضمن فئة أصحاب الملايين، مثل باولو كويللو وماريو يوسا وأمبرتو إيكو وأليف شافاق وغيرهم، وباتوا يقيمون في منتجعات وقصور في باريس وروما وجنيف، بعد ضنك ورقة حال؟ بينما ظل أساطين الكتابة عندنا من أمثال نجيب محفوظ والسياب وحنا مينة وعبدالله البردوني وعبده خال وغيرهم، على اختلاف مشاربهم وأوطانهم، يعيشون على «الستر» طوال حياتهم وبعد مماتهم! الأمر الذي يعيد السؤال المستحق حول جدوى الكتابة في عالم بلا عدالة.

زاد يومي ونمط حياة

كيف كانت الرحلة مع الكتاب وكيف تعرفين نفسك من خلال فعل الكتابة؟

ـ الكاتب عامة هو نتاج تعليمه وقراءاته وبيئته الثقافية. ثم يضاف إلى تكوينه عنصر آخر مهم، وهو مدى اشتغاله على نفسه وجدّيته في تطوير أدواته الكتابية. ناهيك عن ضرورة تواصله مع مستجدات الحياة الثقافية ومواكبته لعصره وطروحاته المعرفية. أنا أجتهد أن أقترب من هذه الصورة العامة للكاتب. القراءة بالنسبة لي زاد يومي ونمط حياة. بيد أن الإنسان بعد قطعه شوطاً في النضج والعمر، يبدأ بالتخلي عن فكرة «تصنيم» الكتاب أو «تأليه» المؤلف، مهما بلغ شأوه. لذلك فلم أعد أركن إلى «الكتاب المفضّل» أو الكاتب «الأيقونة»، فكل ما يُكتَب هو وجهة نظر، قابلة للحوار أو معرّضة للنقض.

تكملة لإجابة التعريف بالنفس، يمكن أن أقول بأن للكتابة دوراً في تحديد ملامحي. والكتابة مثل أي صفة بشرية، تدل على صاحبها وتشير إليه. بدأتُ بالشعر، الذي ربما عكس طبيعة الجيل الذي أنتمي إليه ومرحلته، حين انطلقنا نحو قصيدة التفعيلة في البدء. ثم في مرحلة لاحقة نحو قصيدة النثر، التي أزعم أنني أول من كتبها بجدية ووعي في الكويت عام 1984. وقد أثبتُّ ذلك في مجموعتي الشعرية «طقوس الاغتسال والولادة». ثم أكّدتُ هذه المعلومة في كتابي «تتكسّر لغتي، أنمو/ سيرة شعرية وشواهد». في مرحلة متأخرة بدأتُ بالتوجّه نحو قصيدة الومضة، ثم النص اللصيق بإيقاع الحياة ومفرداتها الحميمة.

دخلتْ المهنة بعد ذلك في حقل الكتابة وعزّزتها. فجاء التأليف في مجال الدراسة الأدبية تنويعاً آخر للكتابة. لكن الميل الفني في التعامل مع الكلمة، جعل تلك الدراسات الأكاديمية أقرب إلى الأدب، وجنّبها وعورة الأسلوب العلمي ورصانته، وقرّبها من القارئ العادي المتذوّق. هناك أيضاً شغف في كتابة المقال، لأنه يربط الكاتب بمجريات الحياة المعيشة، ويدخله في حوارات حيّة مع شؤون الساعة الثقافية.

إذا صدقت النوايا

كيف ترين الواقع الثقافي محلياً وعربياً؟ وكيف تقيمينه؟

ـ شيء حسن أن نتحدث عن واقع الثقافة في عمومها. لأن حقول الأدب أوشكت أن تتداخل مع حقول الفنون الأخرى. لم يعد هناك حدود فاصلة بين الكتابة والرسم، أو بين الكتابة ومنصة المسرح أو الفيلم الوثائقي والسينما. فكلها جهود تنطلق من الكتابة، لتصب في هذه الأنهار. ومحبو الأدب عادة هم محبون لما يوازيه من فنون، يمكن أن تتناغم مع كلماتهم وأفكارهم وتجسدها في أثواب أخرى. أعتقد بأن الحياة دائماً تسير نحو الأمام. وواقع الثقافة عندنا أو في منطقتنا العربية، ليس استثناءً. هناك أجيال تتوالى، وهناك جهود تتضح فيما تقذفه المطابع من روايات وسير ذاتية وشعر وكتب مترجمة. وهناك تجارب في السينما، وهناك المسلسلات التلفزيونية الناجحة، ومعارض الفن التشكيلي ومعارض الكتاب، والندوات التخصصية وورش العمل التي تجد إقبالاً لافتاً.

من يرِد أن يبحث عن مبتغاه، فسوف يجد ما يلبي شغفه. وليس بالضرورة أن تعلن هذه الفعاليات عن نفسها بصخب، لتدلل على وجودها وفاعليتها في المشهد الحياتي، ما دام هناك من يتحرى ويعرف الطريق الموصلة إلى الينابيع.

بقي أن أقول بأن المشهد الثقافي أو الأدبي على وجه الخصوص، يمكن أن يُصنع صناعة، إذا صدقت النوايا وتضافرت الجهود. فكما أن هناك ما يُسمّى «صناعة النجم» في فن الغناء والتمثيل والإعلام، هناك أيضاً إمكانية لصناعة «الأديب»، إذا وجد من يرعاه ويتبنّاه ويؤمن بقدراته الواعدة. والحديث قد يطول حول الأساليب التي يمكن أن تدفع نحو صناعة مشهد أدبي زاخر بالحيوية.

من رسالة إلى وسيلة

هل تعتقدين بأن النقد الأدبي يعاني أزمة كما يُشاع؟ وهل هناك حلول مقترحة إذا صدقت المقولة؟

– النقد الأدبي هو فرع من فروع الأدب، وإن كان يخضع للمنهج العلمي. كان كذلك وسيبقى، سواء عربياً أو عالمياً. والنقد الأدبي إما يتجلى من خلال «النظرية» أو «التطبيق». «النظرية» تظل في حدود التخصص الدقيق، يقاربها المعنيون بالحقل العلمي، ويناورون حولها في الحلقات النقاشية الضيقة والأوساط الأكاديمية، ونادراً ما تستهوي القارئ العادي. أما النقد التطبيقي فهو مدار السؤال كما أفهم. كان للنقد التطبيقي شأن وصدى في نتاجات عرّابي الأدب العربي الحديث من الروّاد، أمثال طه حسين والعقاد وميخائيل نعيمة ومحمد مندور وغيرهم. فهؤلاء ومجايلوهم كانوا يشتغلون في التأليف في المقام الأول، ويدركون الرسالة المهمّة التي يلعبها التأليف في تكريس أعلام الشعر والأدب في عصرهم. ومن خلال كتاباتهم النقدية ومؤلفاتهم أمكن للقارئ أن يتعرف على أحمد شوقي والمازني وإبراهيم ناجي والشابي ونجيب محفوظ.. إلخ .

ولكن الآن اختلف الوضع. لأن النقد تحوّل من رسالة ثقافية، إلى وسيلة للترقية الأكاديمية، وتسلّق سلم المهنة لا غير. نعم، هناك دراسات نقدية تطبيقية على المنتج الأدبي الراهن، ولكنها دراسات ظلت محبوسة في المجلات العلمية المُحكّمة، ومحبوسة في شروط المؤسسة الجامعية وقوانينها التي تضيّق عليها النشر الحرّ أو تؤجله، ومحبوسة في صياغات علمية ومنهجية مقننة، تصعّب على القارئ العادي التذوق وربما الفهم أيضاً.

وعليه، فالنقد وتقييم المشهد الأدبي موجود، لكنه محصور في الدوائر العلمية المحضة والمؤتمرات التخصصية، التي لا يحضرها العامة عادة. ولهذا السبب يفتقد المبدع والقارئ المشهدَ النقدي بفداحة. ويقيني أن الوضع سيظل على ما هو عليه، ما لم يعد الإيمان برسالة التأليف وأثره، إلى قلوب المشتغلين بالكتابة والأدب مرة أخرى.

حان موعد الرواية

ماذا تكتبين الآن؟

ـ حالياً أعكف على كتابة «رواية». ليس مجاراة للجو العام، الذي كثر فيه اللغط حول علو حظ السرديات في المشهد الأدبي، وإنما لأن هناك حالات وموضوعات تظل تلحّ على الكاتب، مما لا يمكن التعبير عنها إلا بهذا الجنس من الكتابة. وموضوع روايتي كان يختمر في ذهني على مهل طوال سنوات، إلى أن حان موعد التعامل معه.

أحداث الرواية تدور ما بين عقدي الثمانينات والتسعينات، في عاصمة أوروبية، كانت مغتَرَباً ومهجراً لمجموعة من العرب الباحثين عن الحرية أو الرزق أوالعِلْم. تنعقد بين ثلة منهم الصداقات والعلاقات المتشابكة والمصالح، متلامحين من وراء خلفياتهم الثقافية وبلدانهم التي قدموا منها. في معترك تحديات البيئة والمكان وهموم التأقلم مع الوسط، يختبر شخوص الرواية أبعاداً أخرى لمعاني الغربة والصداقة والحبوالزمن، تاركين هذه المعاني ترسم معالم الطريق وخيوط الحكاية.

القبس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock