معارض الكتاب.. ليست سوقا فحسب
تخلقُ الكتبُ بينَ صفحاتها عوالمَ لا تطال إلا بها، وتبني في مخيلاتنا آفاقاً ما كان لنا أن نبلغها لولا القراءةَ في بحور هذه الكتب، فهل تتخيل أن في الإمكان لكل هذه العوالم والآفاق المكنونة في طيات الكتب أن تلتقي على رصيفٍ واحدٍ؛ لتكونَ في تدافعٍ بينَ يدي القارئ والناهمِ لعوالمها ودررها.
لا يمكن أن تتجلى هذه الصورة بالهيئة المثلى لها إلا في العرض المتدفق للكتب، عرضاً يتيحِ ولا يمنع، ويدفع ولا يدبر؛ ليكونَ في عرضهِ عرضاً للفكرة دونَ المادية الوجودية للكتاب أو حدوده المادية، إن صحَّ القول، وهذا ما يسمى “معارض الكتب”؛ حيث تتيح أن يجتمعُ القراء بجل اختلافهم وتذوقهم على مائدةٍ واحدة تحوي من الكتب وآدابِ مخطوطاتها ما يستحيل أن يجمع بهذه الكم والنوع والتدفق في مكان أو هيئةٍ أخرى.
كانت رؤيتي الأولى لمعرضٍ للكتاب في السنة الأولى لي في الجامعة، عندما دخلت حرم الجامعة وإذا بالجمعِ قد تجمعَ يتسوق الكتب وينتقي ويصنف، وليُغمرَ أيضاً فضول اللاقارئ بالتنحي عن جفائهِ للكتب، ويزورُ عرضها وينتقي ولو كتاباً، للمشهدِ في صورتهِ الأولى هيبة جليلة وحضوراً بهياً، مع عدم إغفال سؤال الدهشةِ الأولى: هل تكفي غاية الشراء لنبني مثل هذه المعارض؟ وبعد أعوام مضت وزيارات عدة لمثل هذه المعارض، بكل أحجامها ومستوياتها، أيقنت أن هذه المعارض لا تعد سوقاً لتبادل الصفقات التجارية والربحية فقط، بل هي تعد مكاناً لتوارث وتناقل المعارف والعلوم والآفاق والخيالات، التي ذخرت بها الصفحات؛ لتكونَ أشبه بتدفقِ المعلومةِ والفكرة من عقل إلى آخر عبر نوافذِ هذه المعارض ومثيلاتها، إضافة إلى أن هذه المعارض تشكلُ نواة هامة لتلاقي صناع الكتب بكافة نواحيها ووسائلها وبينَ صناع الثقافة والأدب ومنتجي الاكتشافات والحرفة الكتابية.
وأرى أن تعاظم دور هذه المعارض يزدادُ يوماً بعد يوم، وتصبح مسؤوليتها كبيرةً في ظِل الهيمنة الكبيرة للمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل وعبقريةِ الوصول السريع للمعلومة، وذلكَ عبر هذه المواقع وشبيهاتها؛ لأن لذةَ البحث والخط والتدوينِ في الصفحات أمر حثيث على تعظيمِ المعلومةِ والعِبرةِ ووسيلة لا يمكن الاستغناء عنها على الرغم من وجود الكتب الإلكترونية ومثيلاتها في حيز كبير في السوق، ومن هنا قد تحتاج معارض الكتب إلى تطوير بعض وسائلها وتعزيز التبادل الثري للمعلومة والأفكار التي تتناولها الكتب المعروضة، من خلال التنظيم الجيد في المعروض من الكتب وثرائهِ وتنوعهِ، وتقديمِ فحوى من الخطابات الأدبية والثقافية يليق بأصالة الفكرة التي تسمى “معرض الكتاب”؛ لكون هذه المعارض تشكل منبراً قيماً لتلاقي الأفكار والآداب والثقافات بينَ منتجيها.
المصدر:
هافينغتون بوست