د. حمود العبدلي يكتب: الذكاء الاصطناعي التوليدي GenAI: هل هو الرصاصة الفضية التي ستقتل التعليم الحالي؟
إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)، مثل ChatGPTأثار نقاشًا واسعًا حول تأثيرها المحتمل على التعليم فهناك من يُزعم أن الذكاء الاصطناعي سيُحدث ثورة في التعليم وربما تُحل جميع مشاكله، بينما يخشى فريق آخر من تدميرها التعليم.
يعلمنا تاريخ التكنولوجيا أن ادعاء حل جميع مشاكل التعليم ليس بالأمر الجديد؛ وان حلول التكنولوجيا لم تحقق النتائج المتوقعة فقد رأينا كيف فشلت تقنيات مثل الحاسوب في الستينات في حلّ جميع مشاكل التعليم، رغم الضجيج المُثار حولها في وقتها؛ إلا ان هذه المرة يختلف الأمر عن سابقتها حيث يُعتبر GenAI مختلفًا عن التقنيات السابقة بفضل قدرته على توليد محتوى كتابي أصلي لا يميزه الإنسان عن كتاباته، هذه القدرة تُنذر بتغييرات كبيرة في التعليم، حيث تُثير مخاوف حول قدرة الطلاب على التعلم والتفكير بشكل مستقل في وجود أدوات تُقدم لهم الحلول الجاهزة مثل كتابة مُلخص لمقال معقد.
تتميز تقنيات توليد الذكاء الاصطناعي بقدرة غير مسبوقة على إنتاج نصوص مكتوبة تشبه إلى حد كبير ما ينتجه البشر، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الإبداع البشري والتعليم، هذه القفزة النوعية تثير قلقاً بالغاً بشأن تأثيرها على التعليم، حيث قد تؤدي إلى تغيير جذري في الطرق التي نُعلِم ونُقيم بها؛ فبدلاً من الاعتماد على تحليل النصوص الموجودةالذي كان سائداً في أدوات التعليم 0.3، يمكن للطلاب الآن توليد محتوى جديد مما يطرح تحديات جديدة أمام المعلمين والمؤسسات التعليمية؛وهناك تحدي أعمق من هذا وهو التأليف الهجين بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، والذي يُشكل تحديًا جديدًا لأدوات كشف الانتحال الحالية، حيث لا تستطيع هذه الأدوات التعرف بشكل موثوق على النصوص المُولّدة بواسطة GenAI، رغم محاولة الشركات التكنولوجية تطوير أدوات جديدة للكشف، لكنها لا زالت في مراحل التطوير الاولية ولا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل في الوقت الحاضر.
إلى جانب المشاكل الأساسية التي حاول المعلمون ومصممو التعليم معالجتها دائمًا وهي: “هل حصل الطالب على الإجابة الصحيحة؟” (أي مشكلة المنتج) و”كيف نعرف أن الطالب قد تعلم؟ (أي مشكلة العملية)، هناك مشكلة ثالثة الآن، وهي “ما هي الاستراتيجيات التعليمية التي ستدعم التعلم؟
جعلت أدوات GenAI الإجابة على الأسئلة الثلاثة أكثر تعقيدًا، وخاصة في سياق التعلم غير المتزامن بسبب اعتمادها المفرط على مجموعة معينة من أنواع واستراتيجيات التقييم -الاستجابات المكتوبة والاختبارات ومثيلاتها- هذه الأدوات تمكن المتعلم من إنتاج استجابات شبيهة بالإنسان لهذه الأنواع من التقييمات، مما يسمح للطلاب بتجنب [عمدًا أو عن طريق الخطأ] العمل الشاق للتعلم بما فيها إنشاء أو تفسير الرسومات والمخططات؛ كل هذا يجعل الأنشطة التعليمية بشكل عام ممكن إكمالها باستخدام أدوات GenAI، ومن هنا يواجه المعلمون ومصممو التعليم تحديات بسبب انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT التي تمكن الطلاب إنجاز مهامهم بسهولة، مما يطرح سؤالاً حول كيفية التأكد من أن الطلاب يتعلمون فعلاً ويطورون مهاراتهم، بدلاً من الاعتماد الكامل على هذه الأدوات.
قد تكون قدرة أدوات GenAI على الإجابة عن الأسئلة متقدمة، لكن منالمهم ملاحظة أن المعرفة البشرية لا زالت ضرورية، وبالتالي لا تستطيعهذه الأدوات استبدال الحاجة إلى التعلم العميق والمعرفة البشرية؛ ربما جعلت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT بعض أنواع المعرفة غير ضرورية بقدرتها على تقديم إجابات عن الحقائق، او الإجراءات، أو حتى تحليل المعلومات بسهولة، إلا ان هناك حجج قوية تدحض هذا الاعتقاد؛ في عام 2020 ناقش Neelen) Kirschner,) فكرة مغلوطة شائعة وهي “أن Google يمكن أن يحل محل المعرفة البشرية”؛ من خلال تحليل أنواع مختلفة من المعرفة (مثل المعرفة التصريحية، المعرفة الضمنية، وغيرها) و قدموا حججًا موثقة لدعم أفكارهم منها:
• ضرورة تفسير المعلومات: حتى مع افتراض أن Google قد يحل محل معرفتنا الشخصية، لا تزال المعرفة البشرية ضرورية لتفسير المعلومات وجعلها ذات معنى، إذ نحتاج إلى الفهم البشري لاستخدام المعلومات بشكل صحيح وفعال.
• التعامل مع المشاكل المعقدة: عند التعامل مع المشاكل المعقدة لا يمكن الاعتماد على Google وحده، لأننا بحاجة إلى معرفة ما نبحث عنه بدقة، وتقييم المعلومات المستخلصة بناءً على المعرفة التي نمتلكها مسبقًا.
هذه الأفكار تشير إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث ليست بديلاً كاملاً عن المعرفة البشرية بل تتطلب منا استخدام معرفتنا لتفسير وتقييم المعلومات بشكل فعّال؛ وعلى الرغم من أن المعلومات المسترجعة من بحث Google تختلف عن تلك التي يتم توليدها بواسطة أدوات مثل GenAI، فإن حجج Neelen وKirschner تظل صالحة؟
دعونا نوضح الأمر، ما يحدث بالنسبة لأدوات GenAI هو تدريبها على مجموعات بيانات ضخمة قد تتضمن عدم دقة، او مفاهيم خاطئة؛ إنها لا تفكر..! إنها تخلق استجابات شبيهة بالإنسان بناءً على الاحتمالات، واثناء القيام بذلك قد تقوم باختلاق معلومات (أي الهلوسة)، لذلك ليس من الصعب العثور على نتائج غير منطقية أو غير صحيحة؛ GenAI لا تمتلك القدرة على فهم المعنى الكامن وراء هذه الكلمات حقًا وهذا يعني أن أي استجابات تولدها من المرجح أن تكون ضحلة وتفتقر إلى العمق والبصيرة، وبالتالي فإن نتائج الذكاء الاصطناعي “تتطلب معرفة ما نبحث عنه وأن نكون قادرين على الحكم على المعلومات التي نجدها استناداً إلى المعرفة الموجودة في رؤوسنا”.
لذلك من غير المرجح أن يُدمر GenAI التعليم لكنه قد يُهدد شرعية بعض الممارسات التعليمية التقليدية، مثل التقييم الكتابي الذي يعتمد على كتابة الطلاب للأعمال والمقالات في مُختلف المواد التعليمية؛ لذا بصفتنا معلمين ومصممين للتعليم يتعين علينا تحديد استراتيجيات التعلم التي ستساعد الطلاب على تطوير المعرفة التي يحتاجون إليها، بالإضافة إلى وضع التقييمات التي تعزز ثقتنا في اكتساب الطلاب لتلك المعرفة، سواء كان لديهم وصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي أم لا. والسؤال هنا هو: كيف يمكننا تحقيق ذلك؟
بدلاً من استراتيجيات التعلم التقليدية والتقييمات التي يمكن للطلاب إكمالها بدرجة معينة من الدقة باستخدام GenAI، يجب أن ننظر إلى الابتكار في كل من تصميم التعليم وتقييم التعلم وتقديم استراتيجيات يمكن للمعلمين تبنيها للتكيف مع هذه البيئة الجديدة:
1- التركيز على العملية بدلاً من المنتج: الفكرة هنا تدعو إلى تغيير تركيز الواجبات التعليمية من التركيز على المنتج النهائي إلى التركيز على عملية التعلم نفسها، الهدف من هذا النهج هو تشجيع الطلاب على الاهتمام بخطوات التعلم، مثل تقديم مسودات، او مخططات، أو قوائم ببليوغرافية مشروحة مع تقديم العمل النهائي، من خلال تقييم هذه الخطوات يمكن للمعلمين الحصول على فهم أعمق لرحلة تعلم الطالب ومدى تطوره، ومع ذلك هناك تحدٍ في هذا النهج يتمثل في أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي GenAIيمكن أن تساعد الطلاب في إعداد هذه المسودات والمخططات أيضًا.
2- استخدام التقييمات الشفوية: تعتبر الامتحانات الشفوية أو العروض التقديمية أدوات فعالة لتقييم فهم الطالب الحقيقي للمادة؛ هذه الأنواع من التقييمات يصعب على الطلاب التحضير لها باستخدام الذكاء الاصطناعي مما يعطي المعلمين رؤية أوضح لمدى استيعاب الطالب للمادة، ومع ذلك فإن تطبيق هذه الاستراتيجية في مقررات كبيرة، مثل مقرر “انجليزي 101” الذي يضم 600 طالب، يكاد يكون مستحيلاً بسبب العدد الكبير من الطلاب.
3- استخدام أدوات الكشف عن الذكاء الاصطناعي: هناك تقنيات جديدة تهدف إلى اكتشاف ما إذا كانت الكتابة قد أُنتجت بواسطة الذكاء الاصطناعي، هذه الأدوات تساعد المعلمين في تحديد العمل الذي قد يكون تم إنجازه بواسطة GenAI، ومع ذلك فإن دقة هذه البرامج ما زالت غير مثالية، حيث قد تُنتج نتائج سلبية كاذبة (أي تم استخدام الذكاء الاصطناعي ولم يتم اكتشافه) أو إيجابية كاذبة (أي لم يتم استخدام الذكاء الاصطناعي، لكن الطالب يُتهم باستخدامه)، لذلك على المعلمين الذين يرغبون في استخدام هذه الأدوات أن يكونوا على دراية بقدراتها وحدودها، حتى يتمكنوا من استخدامها بشكل مسؤول وفعال.
4- تعديل تصميم المهام: يمكن تعديل تصميم المهام لتكون أكثر تحديدًا، أو مخصصة، أو معتمدة على السياق كان تتضمن هذه المهام موجهات مرتبطة مباشرة بالمناقشات الصفية، أو بالأحداث الجارية، أو سيناريوهات فريدة تجعل من الصعب على الذكاء الاصطناعي تقديم إجابات دقيقة أو ذات صلة.
5- تشجيع التفكير النقدي والتحليل: تكليف الطلاب بمهام تتطلب منهم نقدًا أو تحليلًا أو تطبيق المفاهيم في سياقات جديدة، حيث يصعب على الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي تقليد هذا النوع من الفهم، لكن من المتوقع ان يكون ChatGPT 5.0 قادرًا على القيام بذلك وتظل هذه الاستراتيجية مهددة.
6- التركيز على التطبيق والإبداع: تكليف الطلاب بمشاريع تتطلب التفكير الإبداعي أو تطبيق المعرفة في مواقف جديدة أو حل مشاكل واقعية، مما يجعل من الصعب على الذكاء الاصطناعي تقليد عمل الطالب، ومع ذلك يشير مقال حديث في مجلة Harvard Business Review إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تعزيز الإبداع ويساعد في توليد أفكار جديدة.
7- المهام داخل الصف: إجراء التقييمات أثناء وقت الحصة، سواء بشكل شخصي أو عبر منصات إلكترونية تحت مراقبة المعلم قد يساعد هذا في ضمان أن العمل المقدم هو من إنتاج الطالب، لكن هذه الاستراتيجية تصطدم بمشكلات تتعلق بحجم الصف.
8- التقييم من قبل الأقران والعمل التعاوني: دمج عمليات مراجعة الأقران والمشاريع الجماعية يمكن أن يشجع الطلاب على التفاعل بشكل أعمق مع المادة ويقلل من اعتمادهم على المحتوى المولّد بواسطة الذكاء الاصطناعي، لكن من ناحية أخرى يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي تقديم نقد لأي نص بمجرد إدخال النص في النظام.
9- تطوير منهج لمحو الأمية الرقمية والأخلاقية: وتثقيف الطلاب حول الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مناقشة النزاهة الأكاديمية، حدود الذكاء الاصطناعي، وأهمية العمل الأصلي، لكن هذه المناهج تواجه تحديًا مع “الطالب الاقتصادي” الذي يسعى إلى تحقيق أكبر فائدة بأقل جهد ممكن.
10- مسارات التعلم الشخصية: تخصيص التجارب التعليمية والمهام لكل طالب بشكل فردي يقلل من إمكانية استخدام المحتوى المولد بواسطة الذكاء الاصطناعي، إلا ان هذا الأمر صعب جدًا في المقررات الكبيرة التي تضم عددًا كبيرًا من الطلاب.
11- التقييمات المتكررة منخفضة المخاطر: استبدال الاختبارات الكبيرة بتقييمات متكررة ومنخفضة المخاطر لتقييم فهم الطالب بمرور الوقت، ومع ذلك يمكن أن يكون هذا مشكلة إذا كانت التقييمات عبر الإنترنت.
12- تشجيع الكتابة التأملية: تكليف الطلاب بمهام تطلب منهم التفكير في تجاربهم الشخصية أو آرائهم، مما يجعل من الصعب على الذكاء الاصطناعي توليد هذا النوع من المحتوى، لكن الطالب الذكي يمكن أن يتجاوز هذه الاستراتيجية باستخدام مطالبات محددة تجعل الذكاء الاصطناعي ينتج محتوى مشابهًا لما قد يكتبه المؤلف الأصلي، مما يجعل من الصعب على المعلم معرفة ما إذا كان هذا العمل أصليًا أم لا.
هذه الاستراتيجيات تهدف إلى الحفاظ على نزاهة التعليم ويستطيع المعلمون من خلالها محاولة التخفيف من التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والاستفادة من الموقف لتعزيز التعلم العميق والتفكير النقدي والفهم الأخلاقي بين الطلاب، ومع ذلك مع تزايد “ذكاء” أدوات الذكاء الاصطناعي، تصبح المهمة أكثر صعوبة، بمعنى آخر بينما يمكن استخدام هذه الاستراتيجيات المختلفة للتقليل من تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإن المعلمين سيحتاجون إلى الابتكار والتكيف باستمرار مع تطور هذه الأدوات لضمان أن الطلاب يكتسبون المعرفة والمهارات بشكل أصيل.