كتاب أكاديميا

د. حمود العبدلي يكتب: التعليم 4.0 الحدود بين الإنسان والآلة

يستجيب التعليم للتطورات والتحولات في الحياة، فعندما كان ينظر للخريج انه عامل في خط الإنتاج كانت المدرسة في التعليم 1.0 مبنى من الحجارة، والمعلمون مهنيون، وعندما أصبح ينظر للخريج انه عامل لإنتاج المعرفة أصبحت المدرسة في التعليم 2.0 مبنى وعلى شبكة الأنترنت، والمعلمون مهنيون و معنيون بخلق بيئة تعليمية جذابة.
وجاء التعليم 4.0 استجابة للثورة الصناعية الرابعة التي تتصف بإنها سوف تجتاح بتكنولوجياتها الرقمية الجامحة أساليب الإنتاج وأدواته، وعلاقات العمل التي تدخل من ضمنها العلاقة بين الإنسان والآلة، كما سيمتد تأثيرها إلى الحياة الاجتماعية والمجال العام الذي أخذت فضاءاته وعلاقاته في الانتقال من الواقع الفعلي إلى الواقع الافتراضي.
وتحول بسببها الخريجون في نظر رجال الصناعة من عمال لإنتاج المعرفة وريادة الاعمال، و المدرسة من مدرسة في كل مكان (المقاهي أماكن العمل الشوارع أماكن اللهو)، والمعلم أي فرد يمتلك جهاز لبث المعلومات والمعرفة كما هو الحال في التعليم 3.0؛ إلى عمال مبتكرون ورواد اعمال، و بالتالي تتحول المدرسة إلى شبكات في المجتمع الإنساني والمعلم أي إنسان في أي مكان لديه برامج ذكية وهو مصدر للابتكار في التعليم 4.0 كتلبية لمتطلبات هذه الثورة.
ويُعرف التعليم 4.0 انه تعليم وتعلم مجموعة من القدرات والمهارات والمواقف والقيم التي تمثل جوانب تعلم مجردة وقابلة للتعليم والتعلم تلبي متطلبات الثورة الرابعة؛ التي توصف بإنها ثورة لـم يشـهد التاريخ البشـري مثلها علـى الإطلاق، ســواء مــن حيــث سـرعتها أو نطاقهــا أو حتـى تعقيداتهـا، و يقـود هـذه الثـورة تكنولوجيا جامحة Disruptive Technology تقوم على عـدد مـن المحــركات الرئيسة تتمثل فــي الــذكاء الصناعــي والروبوتــات، والســيارات ذاتيــة القيــادة، والطابعــات ثلاثية الأبعاد والبيانـات الضخمةData Big ، والعمالة الافتراضية، وإنترنـت الأشياء، والنانـو تكنولوجـي، والتكنولوجــيا الحيوية، وتخزيــن الطاقــة والحوســبة الكمية، وضعت التعليم أمام تحديات من ابرزها:
– سوق العمل المتقلب والتغيرات السريعة الذي تعتريه وما يرافقه من إلغاء وظائف، وخلق اخرى، بالإضافة إلى تغيير المهارات في الوظائف القائمة؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أن مخاطر التشغيل الآلي تتمثل في 67% من الوظائف الحالية في سوق العمل اليوم.
– الثبات في نظم التعليم والتدريب وعدم قدرتها على مواكبة متطلبات السوق من المهارات الجديدة، وتشير بعض الدراسات إلى أن 65 ٪ من الأطفال الذين يلتحقون بالمدرسة الابتدائية اليوم ستكون أمامهم وظائف غير موجودة حتى الآن، وسوف يفشل تعليمهم في إعدادهم لها إذا سار بنفس الوتيرة، مما يؤدي إلى تفاقم فجوات المهارات والبطالة في القوى العاملة مستقبلا.
وهذه التحديات ومثيلاتها تفرض بقوة إعادة النظر في المهارات التي يحتاجها الفرد، ودمجها في أنظمة التعليم وتوفير كل المتطلبات التي تساعد الخريجين في اكتسابها؛ فقد أصبح واضحاً ان الطلب على أصحاب المهارات الأقل تطوراً يتناقص يومياً وتحل التكنولوجيا محلهم، وفي المقابل يرتفع الطلب على أصحاب المهارات المعرفية المتقدمة والمهارات الاجتماعية والوجدانية.
وفي هذا السياق قدم المنتدى الاقتصادي العالمي في مطلع هذا العام (يناير 2023م)، وفقاً لمجموعة بحوث ومؤشرات، و من خلال مشاورات عميقة و واسعة مع خبراء التعليم من المدارس، والمنظمات غير الربحية، ووزارات التعليم، والقطاع الخاص وتم تنقيحها على مدار العديد من المنشورات السابقة، و بصورة إجرائية قابلة للتطبيق مجموعة من القدرات و المهارات التي تمكن المتعلمين من تبني وتطوير صفاتهم الإنسانية الفريدة تلك التي من غير المرجح أن تحل محلها التكنولوجيا بما فيها الذكاء الاصطناعي الذي يُخاض الجدل حول احلاله مكان الإنسان في وظائفه.
تُمكن هذه القدرات مؤسسات التعليم التي ترغب في مواكبة التحولات من إعادة صياغة مناهجها وانظمتها التعليمية بما يحقق الغاية الإنسانية من التعليم، و تم تنظيمها في ثلاث فئات هي: (1) القدرات والمهارات ، (2) المواقف والقيم ، (3) المعرفة والمعلومات.
1- القدرات والمهارات Abilities and skills وتشمل ثلاثة جوانب: (أ) معرفي (تحليلي) cognitive (analytical) ويتكون من قدرات [الإِبداع، التفكير النقدي، المهارات الرقمية والبرمجة، حل المشاكلات، تحليل النظم]؛ (ب) اجتماعي (شخصي) Social (inter-personal) ويتكون من مهارات [تعاون، تواصل، تفاوض، الوعي الاجتماعي والعاطفي]؛ (ج) جسدي Physical ويشمل (التوازن ، التناسق ، الوعي موضعي، القوة).
2- الإتجاهات والقيم Attitudes and values وتشمل جانبان: (أ) التنظيم الذاتي (شخصي) Self-regulatory (intra-personal) ويتكون من القدرات [ التكيف، حب الاستطلاع، المثابرة، المبادرة، الضمير، عقلية النمو]؛ (ب) مجتمعي extra-personal)) Societal وتتكون من القدرات [المسؤولية المدنية، الإشراف البيئي، التعاطف واللطف، المواطنة العالمية].
3- المعرفة والمعلومات Knowledge and information: وتشمل المعرفة التأديبية Disciplinary knowledge الخاصة بالتخصص Discipline-specific.
وفي تقديري ان هذه القدرات و المهارات تضع الحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة وتفرق بينهما، وتجعل من الإنسان الذي يكتسبها إنسان وتظل الآلة آلة يسخرها الإنسان الذي لديه هذه القدرات لخدمة مصالحه، وتحسم جدل حلول الآلة محل الإنسان في مهامه.
لكن التحدي أمام انظمة التعليم هو قدرتها على تحقيق خريج بهذه المواصفات وبناء نظم تعليمية تشمل المناهج والمعلمين وبيئة التعلم وأساليب التقويم تُمكن الخريجين من اكتساب هذه القدرات التي يتطلبها مستقبل الحياة والعمل.
يبقى الرهان على أنظمة التعليم في تحقيق الرأي “يظل الإنسان إنسان والالة آلة”، وتمكين الإنسان من تسخير الآلة لخدمته، ورفاهيته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock