أنوار عبدالله بوكبر تكتب :الجائحة وحاسة اللمس… قريب على بعد
وقعت في يدي مذكرة من أجمل المذكرات التي كتبتها شقيقتي الكبرى، الباحثة الاجتماعية، عن حاسة اللمس. انغمرت بها إلى حد كبير، نقلتني في رحلة من نوع فريد، رحلة مرتبطة بإنسانيتنا ولكن بشكل تكويني خاص.
إنها رحلة في أعماق تكوينية خاصة بالنفس البشرية، تركز على التكوين الحسي؛ فلكل حاسة من حواسنا بحر من الأسرار والخواص ولكل منها لغة فريدة في جهازنا العصبي. نعم إدراكنا واتزاننا النفسي مرهون باستخدام تلك المستقبلات الحسية. وكمختصة نفسية أدرك تماماً عمل تلك المستقبلات وعلاقتها في الإدراك، فكما تعلمون نحن نتعرف على العالم من خلالها إذ هي ترسل كل ما نراه وما نشتمه وما نلمسه وما نتذوقه وما نسمعه، إلى مراكز الإدراك في الدماغ لتعطي، بدورها، المعنى لتلك الرسائل.
لكل حاسة لغتها، غير أن لحاسة اللمس خواصها الفريدة في تكويننا البشري. الإحساس اللمسي مرتبط بالجلد الذي يمتد على كل جسمنا حيث يقدر طول هذا العضو الخارجي متران ونصف والذي يعد أكبر عضوا في جسم الإنسان، وله خواص عديدة حيث تنتشر أعصاب حساسة على هذا العضو تستشعر اللمس وغيرها.
منذ بداية رحلة الإنسان، تبدأ المستقبلات الحسية بالتكون عند الجنين، ومنها خواص العضو الجلدي مشكلة لغة فريدة من نوعها تبدأ من رحم الأم وتستمر هذه اللغة بعد الولادة لتبني علاقة خاصة بها من خلال احتضان الأم للطفل وتقبيله ورضاعته. إن نظريات النمو ركزت على هذه العلاقة وعلى السواء واللاسواء فيها؛ فالمحروم من الاحتضان والحب قد تظهر لديه سلوكيات غير سويه فيما بعد. فثقة الطفل ونموه العاطفي مرهون بعلاقة الحب غير المشروط المتمثل بالطبطبة والاحتضان والشعور بالأمن. وقد أدرك المختصون النفسانيون أهمية اللمس بل واقترحوا علاجات تقوم على اللمس والحضن وغيرها. وتناولت دراسات مختلفة أهمية الحضن لنمو الطفل النفسي والعاطفي والمعرفي. ومن تلك الدراسات دراسة Adriyansyah و Rahayu المنشورة سنة (٢٠١٨) حيث قام الباحثون بدراسة تجريبية قاسوا من خلالها الذكاء العاطفي لدى الأطفال قبل وبعد العلاج بالحضن. وتوصلت الدراسة إلى أن الحضن ساهم في نمو الذكاء العاطفي لدى الأطفال. وكانت BCC البريطانية قد نشرت بحثاً يقيس شدة ألم الابرة وبينت أن الألم يخف مع وجود مسح وطبطبه للطفل أثناء الحقن. ومما يحضرني، في هذا السياق، كيفية التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، سيما كوني مختصة نفسية في مدارس التربية الخاصة بدولة الكويت، إذ تبين لي أنه في حالة الاستثارة الانفعالية كان اللمس والتربيت على الكتف سرا علاجيا فاعلا خصوصا مع الأطفال ضعاف السمع، إنها تقنية اتصال وتواصل عميقة التأثير بل وتتعدى الكيان اللغوي. وكذلك، ثمة برامج “اللعب العلاجي” Theraplay خاصة للأطفال المحرومين عاطفياً أو الذين عانوا من اليتم حيث يركز هذا العلاج على القيام بأنشطة مع الطفل كتمشيط الشعر والقيام ببعض الأعمال اليدوية وغيرها من أنشطة التي تقوم أصلاً على التلامس حيث يركز اللعب العلاجي Theraplay على اللمس أكثر من العلاج باللعب play therapy.
لغة اللمس لا تقتصر على التعرف إلى الأشياء وإنما تحتوي على جانب علاجي قد تخفف الألم الجسدي والنفسي بل تساهم في النمو العاطفي والمعرفي.
أدرك الإنسان أهمية هذه الخاصية على مر العصور. وفي الثقافة الإسلامية، المسح على رأس اليتيم ثواب. وفي العديد من المواقف النبوية، تتجلى أهمية اللمس والحنو؛ ومنها علاقة النبي ﷺ بأحفاده. عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ” قبَّل النَّبِيُّ ﷺ الْحسنَ بنَ عَليٍّ رضي اللَّه عنهما، وَعِنْدَهُ الأَقْرعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ مَا قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحدًا، فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ اللَّه ﷺ فقَالَ: مَن لا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ ” متفقٌ عَلَيهِ.
اللمس من أعظم لغات الحب الصامته هي انتقال روحاني وتعاطف حاني تجسده الجوارح، وله قوة تأثير خاصة بتكوين الإنسان. ومع استهلال سنة ٢٠٢٠، أصبحت جائحة كورونا أزمة عالمية اجتاحت العالم وأثرت على كل تفاصيله. وراحت المنظمات العالمية تناشد الناس بالتزام التباعد الجسدي. شهور عدة من الحرمان العاطفي والخوف من التلامس والتلاقي. تباعد له أثره الجسدي والعاطفي والتكويني لإنسان العصر الجديد، إنسان صار متوحداً مع ذاته شهورا دون احتضان، دون تلامس. يسكنه هاجس هذا الفيروس اللامرئي، يحرمه من تلامس ذراته الجسدية مع ذرات من يحب. إلى أين يتجه العالم؟ وهل سيعود الإنسان كما كان كائنا اجتماعيا جسديا أم أنه سيبقي على صفة الاجتماعي ويسقط منها الجسدي مستعينا بوسائط التواصل عبر الأجهزة الذكية؛ ليصح عليه القول بأنه كائن قريب على بعد؟