د. محمد عبدالله يكتب: تقنية سلاسل البيانات تفتح آفاقًا جديدة للمدن الذكية الآمنة بعد جائحة كوفيد-19
سلاسل البيانات هي تقنية واعدة تُمَكِن عملية التداول في البيئات غير الموثوقة، وهو ما يعني عدم احتياج المشاركين لمعرفة الطرف الآخر أو الوثوق به، كما لا تتطلب هذه التقنية وجود وسطاء. وهي عبارة عن هيكل شفاف للبيانات مُنظَّم في شكل سلسلة من الكتل تديرها شبكة من الحاسبات الآلية، تُسمى منقبي البيانات، وتُشغل بروتوكول تبادل البيانات بين النظراء.
وكانت تقنية سلاسل البيانات قد طُرحت للمرة الأولى لدعم استخدام العملة الرقمية الموزعة (البيتكوين)، التي تتيح إمكانية تحويل النقود الإلكترونية دون تدخل البنوك. ومنذ ذلك الحين، تطورت هذه التقنية إلى ما هو أبعد من ذلك لدعم نشر تطبيقات توزيع أكثر شموليةً لتحقيق أغراض معينة، أو ما يُعرف باسم العقود الذكية.
وفي خضم جائحة كوفيد-19، أُغلقت العديد من المصانع، وتوقفت بعض المؤسسات الخدمية عن العمل بسبب مخاوف تتعلق بالصحة العامة، وهو ما أدى إلى حدوث اضطرابات كبيرة في تأمين سلع وخدمات معينة بسبب نموذج التبعية المركزية الذي تتبناه إدارة سلسلة الإمدادات. ولمعالجة هذه المشكلة، يمكن أن تدعم تقنية سلاسل البيانات المعاملات التجارية بين شركات الأعمال، والمعاملات بين الشركات والعملاء، وحتى المعاملات بين العملاء أنفسهم نظرًا لطبيعتها التوزيعية، وقدرتها على تبادل البيانات بكفاءة بين كيانات مختلفة. ولا تُقلل هذه التقنية من التكاليف وتُخفف من التهديدات الأمنية الناتجة عن الاعتماد على طرف ثالث فحسب، بل إنها أحدثت أيضًا ثورةً في التجارة، وعززت نماذج أعمال جديدة للمدن الذكية المستقبلية في قطاعات مختلفة مثل الطاقة والصحة.
فعلى سبيل المثال، وفي قطاع الطاقة، من المتوقع أن تكون المركبات الكهربائية من بين أعلى المستهلكين للطاقة الخضراء. ووفقًا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن تسير حوالي 120 مليون مركبة كهربائية على الطرق بحلول عام 2030. وسوف يؤدي ذلك إلى حدوث طلب كبير على استهلاك الطاقة، حيث يمكن للطاقة المتجددة أن توفر حلًا فعالًا لتغطية هذا الطلب المرتفع.
وسوف تُمكِّن تقنية سلاسل البيانات الأفراد من المشاركة بنشاط في سوق الطاقة، باعتبارهم إما موردين للطاقة أو مستهلكين لها. ويؤدي انتشار تقنيات الطاقة المتجددة داخل المدن الذكية، مثل الألواح الشمسية المثبتة على أسطح المنازل، وتخزين الطاقة في البطاريات، وتطوير المركبات الكهربائية، إلى ظهور نوع جديد من العملاء، يُعرف باسم “المنتج المستهلك”، حيث يتمتع هؤلاء بالقدرة على إنتاج الطاقة الخاصة بهم وإدارة عملية استهلاكها.
وعبر منح المنتجين المستهلكين فرصةً لبيع فائض الطاقة بشكل مباشر إلى الآخرين على أساس تبادل المنفعة، يمكن أن تتيح تقنية سلاسل البيانات إمكانية فتح سوق الطاقة وإنهاء مركزيتها، وتعزيز إنتاج مصادر الطاقة المتجددة، وتقليل البصمة الكربونية، وتيسير الاستجابات للطلب المتزايد على الطاقة الصديقة للبيئة.
وقد طوَّرت كلية العلوم والهندسة في جامعة حمد بن خليفة، بالتعاون مع برنامج قطر الذكية “تسمو”، التابع لوزارة المواصلات والاتصالات، منصة تداول تعاقدية ذكية للطاقة تعرف باسم “إيثريوم” على نوع معيّن من شبكة سلاسل البيانات. وتتيح هذه المنصة لموفري الطاقة المحليين إمكانية تبادل فائض الطاقة الموجود لديهم مباشرة مع مالكي المركبات الكهربائية بطريقة تبادل المنفعة بين الأقران. ولتجنب إجراء تغييرات كبيرة في البنية التحتية الحالية، تواصل المنصة الاعتماد على شركات المرافق العامة في عمليات القياس والفوترة. بالإضافة إلى ذلك، توظف المنصة آلية ثاني أدنى سعر في المناقصة لضمان تحقيق الصالح العام والتوافق المشجع.
ولمعالجة تفشي فيروس كوفيد-19، تبنّت معظم البلدان تدابير وقيودًا صارمة تدعو إلى الإيقاف المؤقت للأعمال، والتباعد الاجتماعي، وإقناع السكان بالبقاء في منازلهم. علاوة على ذلك، يتطلب فحص الآلاف، وحتى الملايين من الأشخاص، يوميًا، على مدى فترات طويلة من الزمن، مشاركة العديد من الكيانات المستقلة خارج المستشفيات والعيادات الخاصة، لتشمل الجهات المعنية مثل شركات الطيران، والمؤسسات التعليمية والشركات الكبرى، وما إلى ذلك.
ويعني تقاعس هذه الكيانات المستقلة عن إدارة البيانات بكفاءة أن البيانات المتعلقة بالفحوصات ستُسجل في مختلف السجلات الداعمة غير المركزية، وأنها قد تتعرض للضياع أو التلاعب، كما يمكن ملاحظة وجود كمية كبيرة من الأخطاء والتحيز، وبالتالي فإن استراتيجية الفحص الجماهيري الواسع ستكون ذات نتائج عكسية ومضللة.
ويمكن أن تُساعد تقنية سلاسل البيانات في تمكين نظام دعم اتخاذ القرارات المستنيرة في خضم الجهود الرامية لمكافحة انتشار فيروس كوفيد-19، ودمج طرق فعالة وآمنة لجمع البيانات وتبادلها. علاوة على ذلك، يمكن لهذه التقنية المساعدة في تبادل المعلومات الحساسة بين مختلف الهيئات الحكومية خلال وقت قصير نسبيًا. فعلى سبيل المثال، قد تحتاج المطارات للوصول إلى السجل الصحي للركاب قبل السماح لهم بالسفر. ويمكن تبادل هذه المعلومات بين المستشفيات والمراكز الطبية مع التأكد من عدم إمكانية تغييرها.
ويمكن أن تساعد تقنية سلاسل البيانات كذلك في توفير حوافز للأشخاص تشجعهم على اتباع التدابير الاحترازية التي تفرضها الحكومة. وفي كلية العلوم والهندسة، حصل مشروع بعنوان “مكافأة: نظام المكافآت الشفاف القائم على تكنولوجيا سلاسل البيانات لتحفيز الناس على الالتزام بالبقاء في المنزل باستخدام خدمة المراقبة اللاسلكية للموقع”، مؤخرًا، على منحة من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي، من خلال برنامج “دعوة الاستجابة السريعة” الذي يرمي إلى المساهمة في التصدي لجائحة كوفيد-19. ويقترح المشروع إنشاء نظام مكافآت وطني شفاف للأشخاص الذين يثبتون التزامهم بالإجراءات الحكومية مثل استخدام تطبيق “احتراز” طوال الوقت، والالتزام بالبقاء في المنزل في الحالات المطلوبة. وسوف تسمح تقنية سلاسل البيانات لهذا النظام بأن يكون شفافًا، وهو ما سيحفز الناس على الانضمام إليه والمشاركة فيه.
* يشغل الدكتور محمد عبد الله منصب أستاذ مشارك في كلية العلوم والهندسة بجامعة حمد بن خليفة.
ملاحظة:
هذا المقال مقدَّم من إدارة الاتصال بجامعة حمد بن خليفة نيابةً عن الكاتب. والآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولا تعكس بالضرورة الموقف الرسمي للجامعة.