أ.دلال فراج المطيري تكتب: ثنائية التخييل والمحاكاة عند حازم القرطاجني
تبدأ فكرة التخييل بأرسطو الذي يرى أن الفن محاكاة (تقليد أو تشبيه) للحقيقة التي تتجسد في الشخصيات والانفعالات والأفعال (1) فهو يحيل التــُخيل على الإحساس، ويــُنبئ قوله ان التخيـّل حركة ناشئة عن الإحساس بأمرين، الأول : ان الإحساس والأدراك أصل التخيل، والثاني: الحركة التي تدل من قريب على أن التخيل عملية دينامية بمعنى أن الشاعر يأخذ من القوة المتخيلة مادته الجزئية، ثم يعرضها على عقله أو يتركها بحسب ما تحكمه فكرة القوة والضعف (في ذلك، وهذا ما ذهب اليه ابن خلدون، باعتبار التصوير والتخييل على غيرهما من الاعتبارات الأخرى في الشعر وان كان لا يهمل ما أشار اليه سابقوه من أمور متصلة بشكله واوزانه وقوافيه، اذ يعرف الشعر بقوله: “هو كلام المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستغل كل جزء منها في غرضه، وقصد عما قبله وبعده الجاري على اساليب العرب المخصوصة به” (2).
فالتخييل الشعري – في هذه الزاوية – عملية ايهام موجهة تهدف اثارة المتلقي اثارة مقصودة سلفا والعملية تبدأ بالصورة المخيلة التي تنطوي عليها القصيدة والتي تنطوي – هي ذاتها – على معطيات بينها وبين الأثارة المرجوة علاقة الإشارة الموحية لما يمتلكه التخييل لجوانب من المبالغة والوهم، ولا بد من وجود التخييل في الشعر، لأنه يعطي القدرة للشعر كي يبعث في النفس الراحة من عناء الحياة المادية (3)لأنها تعبر عن محاكاة قائمة على ذاتية التأمل، كما استعمل الفارابي التخييل بدل المحاكاة عن طريق إلمامه بفكرة انطباع المحسوسات كما صورها في تعريفه للتخييل بأنه “انفعال يظهر في صورة تعجب أو تعظيم أو غم ّ أو نشاط من غير أن يكون الغرض بالقول اعتقاد البتة” (4) أو كما في قوله “الشيء قد يكون محسوسا عندما يــُشاهد ثم يكون متخيلا عند غيبته بتمثــّل صورته في الباطن” (5).
لكنه في الوقت نفسه ليس مجرد تصور أشياء غائبة عن الحس، انما هو حدث معقد ذو عناصر كثيرة، يضيف تجارب جديدة.
ان التجربة الأولى ليست إلا بذرة تعطى فرصة الدخول في أجواء بعيدة وقريبة من اجل ان تجري عليها صفة التفكيك تلك، واعادة التنظيم والبناء والدخول في مجالات كثيرة مغايرة حتى تغدو تلك التجربة الاولى مجرد مناسبة، التخييل الانساني هو المبدأ الأول في كل ادراك، ايجابي فعـّال نشيط، وليست النفس طائفة من الانطباعات والصور والافكار الباردة الميتة الفارغة.
وقد استعمله قدامة بن جعفر (ت 337) (6) وعبد القاهر الجرجاني (ت474)(7) بمعان تبتعد عن المعنى الأصلي كثيرا، وجاء القرطاجني ليطبقها على الشعر بأوسع مما طبقها ارسطو.
إذ ان التخييل هو جوهر النظرية النقدية عند حازم، وهو مفهوم يتضمن وجود المتلقي في كل مسارات تحققه
لقد أفاد حازم القرطاجني من التراث الفلسفي السابق عليه، واستطاع ان يرقى به الى هذا المزيج النقدي والفلسفي الذي يظهر في كتابه وان كان أكثر حرصا على الجانب النقدي، فهو يجمع في تعريفه للتخييل خلاصة ما توصل اليه شراح ارسطو الذين ربطوا المصطلح ربطا وثيقا بعلم النفس القديم، فاستطاعوا – بعد ان كيفوا معطياته مع تصورهم لمهمة الشعر – أن يدركوا الفاعلية السيكولوجية للتخييل على مستوى المتلقي لان الصور المتخيلة في شعر أي شاعر تعتمد من بين اشياء كثيرة على ملامح بيئته ومشاهدها، فتختزن ذاكرته تلك الملامح والمشاهد ثم تخلق قوة التخييل فيه صورا جديدة منها.
والشعر كما جاء في تعريف حازم هو “كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب الى النفس ما قصد تحبيبه اليها، ويكرّه اليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو مقصورة يحسن هيأة تأليف الكلام” (8).
فحازم إذن في تحديده للمصطلح يبرز قيمة هذا التحديد وما يترتب عليه في مجال النظر الشعري، فلا بد في التكوين الشعري بالإضافة الى الوزن والقافية – من الخيال لما له من صلة وثيقة بالنفس ولما يقوم به من تركيب للصور المخترعة واعادة تشكيل للصور الغائبة والتي لا تخص الشاعر وحده من حيث ملائمة الكتابة للحالة النفسية للشاعر، أو ملائمة المباني للمعاني، انها تخص ايضا المتلقي من حيث التأثير وهذا ما عبر به حازم في تعريفه للتخييل، اذ يقول : “والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر والمخيل أو معانيه أو اسلوبه ونظامه وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية الى جهة من الانبساط أو الانقباض” (9) وبهذا التعريف نؤكـّد على ان التخييل عند حازم، هو ما يثيره الخطاب الشعري الصادر عن الشاعر المتخيل بواسطة المعاني والاسلوب من صور يحدث تخيلها وتصورها واستدعاؤها بصورة شيء آخر انفعالا تلقائيا في نفس المتلقي.
فإشارته إلى الصورة التي تقوم في الخيال وينفعل السامع بتصورهاوتخيلها تعنى هذه الصورة المبتكرة التي يؤلف الخيال أجزاءها على النوع من الخيال الذي يستعيد الصورة المألوفة الغائبة عن الحس.
وما كان من (الاقاويل القياسية مبنيا على تخييل وفيه محاكاة فهو قول شعري، وهو ليس ما فيه من عنصري الصدق والكذب وانما ما فيه من محاكاة او تخييل ويقرر ان لذة المحاكاة نابعة من (التعجب) ويمثل على ذلك بمنظر الشمعة، فهو جميل بحد ذاته، لكنه اذا انعكس على صفحة ماء صافية جاء اجمل بكثير اولا لحدوث اقتراحات جديدة، وثانيا لان هذه الصورة اقل حدوثا من منظر الشمعة ذاتها، والنفس في ذلك اميل ذهابا مع الاستطراف. إن نظرية حازم في الشعر متكاملة وتستمد قوتها من مزج قوي بين النقدين العربي واليوناني، فهي خلاصة افكار الحضارتين في التجربة الادبية .
ولو حاولنا تطبيق، مفهوم التخييل عند القرطاجني الذي جاء به في كتابه منهاج البلغاء، على شعره الذي جاء به في ديوانه المحقق عن طريق عثمان الكعاك، فإننا قد نتوصل الى استنتاجات مفادها الإجابة على السؤال الذي يطرح نفسه :
ما مدى تطبيق حازم القرطاجني لنظرياته النقدية على شعره؟
بمعنى آخر اننا نسعى الى محاكمته نقديا من خلال أشعاره . (10)
لقد مثــّل حازم التخييل في شعره عن طريق الوصف والصور الشعرية، متخذا ما يـُحبب الى النفس من كلام كما في قوله عن الشعر “كلام موزون مقفى ان يحبب الى النفس ما قصد تحبيبه اليها ويكره اليها ما قصد تكريهه”.
ونلحظ من خلال ديوانه الشعري أنه لم يطبق آراءه النقدية النظرية التي احتواها كتابه منهاج البلغاء بشكل متكافئ، فهو يبدو مهتما بالجانب التركيبي النظري اكثر من الجانب الآخر (التطبيقي)، فنحن نرى ان تركيبه الشعري يكاد يكون تركيبا (ميكانيكيا) أكثر من أن يكون تركيبا عفويا ذهنيا أو غير ذهني، وهذا لا يمنع من انه قد طبق بعضا من آراءه وترك الجزء الأكبر من دون تطبيق فعلي .
فالكلام الشعري عنده هو “بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلة بنفسها أو مقصورة يحسن هيأة تأليف الكلام” ، وهذا ما جسده من خلال شعره :-
فتق النسيم ُ لطائم َ الظلماء ِ — عن مـِـسـْكة ٍ قطرت ْ مع الأنداء ِ
وغدا الصباح يفض ّ خاتم عنبر ٍ — بالشرق عن كافـــــــورة ٍ بيضاء ِ
والكوكب الدري ّ يزهو سابحا — في مائـــــــــــه كالدّرة ِ الزهراء ِ
وكأنما ابن ذكاء يـُذكي مجمرا — منه تـُفيد الريــــــــح ُ طيب ثناء ِ
الشاعر ها هنا يكوّن مجموعة من الصور الشعرية ذات الدلالات التخيلية، والتي من شانها أن تكون عنصرا مهما في التكوين الشعري، وهذا ما عبـّر به صفوت الخطيب، حيث يقول: “طاقة الشعر أبعد من أن تحد لدرجة انه لا يعبر عن الكون كما هو في ذاته، ولكن كما يبدو من خلال قوة التصوير الخيالي” (11)، وهذا هو ما عبــّر به حازم في الابيات اعلاه، اذ حاول ان يكثف عنصر التخييل يحبب للآخر عن طريق الصورة التي يبتغيها أولا، ومن ثم يكوّن تداخلا ما بين هذه الصور، وفي المحصلة النهائية تصبح وحدة الموضوع قائمة على قصدية الشاعر نفسه باتجاه الآخر، كما في تقسيماته الجزئية لهذه الصور (فتق النسيم – لطائم الظلماء – مــِـسـْكة قطرت ْ – غدا الصباح – خاتم عنبر – الكوكب الدري – تـُفيد الريح).
وبهذا يقرن الشاعر علاقات متداخلة بين ما هو محسوس وبين ما هو غير محسوس، بين ما هو موضوعي، وبين ما هو فني، وهذا ما يجعل من السياق الدلالي ان يرتقي على ضوء ذلك التداخل، ما بين التخيل من جهة وما بين الاقتباس القرآني من جهة أخرى، كما في قوله تعالى “مثل نوره كمشكاة ٍ فيها مصباح المصباح في زجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء” (12).
فالسياق الدلالي يتميز بوظيفتين:
الأولى: وظيفة الادراك الحسي المشترك
الثانية : وظيفته في فعل المعرفة.
وللصورة التخييلية تأثير في تلوين الفكرة بشكلها الفاتن لان الإنسان قد يتلقى الأفكار أحيانا عن طريق قلبه وعواطفه وخياله وأوهامه ويعمل بما يصادف هوى نفسه، وما ذلك الا لان النفس البشرية تميل الى رؤية الاشياء كأنها حقيقة مسلمة يؤيدها العقل ويرضاها المنطق.
الهوامش :
(1)،(2)ابن رشد ،تلخيص كتاب أرسطو ،دار الثقافة ،بيروت ،1973
(3) جابر العصفور ،مفهوم الشعر ،مؤسسة فرح للصحافة ،القاهرة ،1990
(4)،(5)الفاربي ،احصاء العلوم ،دار الفكر العربي ،القاهرة ،1948
(6) انظر قدامة بن جعفر ،نقد الشهر ،مكتبة الخانجي ،القاهرة
(7) انظر الجرجاني ،أسرار البلاغة ،المكتبة العصرية ،بيروت ،1999
(8)،(9) القرطاجني ،منهاج البلغاء و سراج الأدباء ،دار الغرب الإسلامي ،بيروت 1981
(10) سعد مصلوح ،حازم القرطاجني و نظرية المحاكاة و التخييل في الشعر ،عالم الكتب
(11) صفوت الخطيب ،نظرية حازم القرطاجني النقدية و الجمالية ،مكتبة نهضة الشرق 1986
(12) سورة النور ،35
أ.دلال فراج المطيري
المعهد العالي للخدمات الإدارية