كتاب أكاديميا

أسماء السكاف تكتب: أسمر في برجه العاجي

بحركاتٍ عجولة قفز أسمر من سريره، غسل وجهه ونظف أسنانه ارتدى قميصه الأبيض لاعناً الدوام والعمل المبكر، أتاه صوت العاملة المنزلية من المطبخ: بابا .. في وقت حق قهوة، بيأسٍ قال وهو يغلق أزرار القميص على عجل: ضعيها في الكوب الحافظ للحرارة.

ركب السيارة بتوتر وعجلة على عكس صغيرته الهادئة المشرقة، نظر لها وهو يغلق باب السيارة الخلفي شعر بسَكينة خفية تتسلل لداخله وتمتص كل التوتر، ابتسمت الصغيرة ابتسامةً أكبر من سابقتها وأتبعتها بألطف كلمة صباحية: صباح الخير بابا، شوف لبست جاكيتي القوي لأن برد.

تبدلت ربكته وتوتره لهدوء وكأنَّ اللطف في حَرمِ الصغيرة واجب، بعد عدة كيلو مترات أنزل صغيرته إلى مدرستها مودعاً إياها، ونزل معها الهدوء فبمجرد انطلاق لدوامه ونظره للساعة يتوتر تلقائياً، اليوم هو موعد الاجتماع الشهري في الشركة التي يعمل بها، أي تأخير يعني تأجيلا للورقة التي يريد تقديمها أمام مجلس الإدارة وبناءً عليها سيتم تقييم مشروعه وبالتالي ترقيته وعلاوته.

أدار المذياع متمتماً: لو لم أسهر البارحة لاستطعت الاستيقاظ فجراً وكأنني أُعاقب على كل ساعة سهرٍ ومتعة أحظو بها ليلاً بهدوء، صدح صوت المذياع بأغنية عن الشوق والنسيان والحرمان من الحبيب، خفض الصوت بألم وكأنه غير قادرٍ على إغلاقه تماما ولا هو راغبٌ بسماعه تماماً، وبنفس اللحظة دون أن ينقل يده من على دائرة التحكم بالصوت أعاد رفع الصوت فاسحاً المجال للكلمات أن تدخل لخبابا الروح وتُحرك ما يمكنها تحريكه وتنكش ما يمكن نكشه في جرحٍ قديم لم يُغلق تماماً، انتبه لنفسه يغني بصوتٍ أعلى من المغني وكأنه يُخرج كل ما بداخله من حزنٍ وفقدٍ محبوس منذ سنوات، شعر بنسمات يناير الباردة تضربه بخفة كسوط يضرب بشرته السمراء على خديه وكفيه المكشوفين، فأغلق النافذة مُتجاهلاً النظرات الفضولية من السيارة المجاورة التي حتماً سمع راكبوها صوته الشجي يعلو على صوت المغني، أغلق النافذة مانعاً النسمات الباردة من الدخول فهو شخصٌ صيفي على حد تعبيره يحمد الله كل شتاء أنه أقصر فصلٍ في بلده يكاد لا يتجاوز الشهرين وينتهي.

وصل مُتأخرا كما توقع فتأخر دقائق في الخروج من المنزل شرقاً يعني تأخر ساعة أو أكثر في الدخول للمكتب جنوباً بسبب الزحام طبعاً أو الاختناق المروري بتعبير أدق.

دخل بأقصى ما يُمكن من سرعة وضع حقيبته وأوراقه على المكتب ناظراً لزميله في المكتب بنظرات استفسار رفع حاجبيه وهزَّ رأسه كأنه يقول: ما الوضع؟، ابتسم له زميله ابتسامةً باهتة صفراء مشيرا إلى الساعة: حمدا لله على السلامة اليوم ليس يوم سعدك، سألوا عنك وانتظروا ربع ساعة ثم بدأوا وانتهوا قبل قليل.

جلس على كرسيه بإحباط وثقل وكآبة لا تتناسب مع صباح ينايريٍجميل، طلب قهوته التركية الثقيلة عّلها تُرمم قليلا من الانهيار الذي يحدث بداخله الآن.

قال له صديقه مُمازحا في مُحاولة لتلطيف الجو: قلت لك مرارا اسمع برجك كل يوم لتعرف كيف تتصرف وتتوقع ما سيحدث!! ولأول مرة لم يسخر من حديث زميله عن الأبراج، كان هذا موضوع نقاشٍ وسخريةٍ دائمٍ بينهما فلم يكن أسمر يؤمن نهائيا بأنه يمكن لنجومٍ أو غيرها تحديد مصيره ولم يكن يوماً ليقتنع بأن ولادته في هذا اليوم أو ذاك أو هذا الشهر أو ذاك ستُحدد نجاحه من عدمه أو حتى سعادته من شقائه بل وحتى زواجه وحبه وارتباطه، يضحك وربما يُشفق عندما يسمع أو يرى من يُتابع باهتمام كلام (المنجمين) والمُبصرين، حتى أنه لم يُصبه الفضول يوماً لسماع أو قراءة صفحة الأبراج بأي جريدة أو مجلة تقع عينه عليها، لم يكن أمراً مُهما ولا مُحمساً له ليطلع عليه، ولكنه اليوم تحديداً تذكر لحظة انفصاله عن حبيبته لسببٍ لا يمكن أن يُسَمّى سبب!! ولكنه حتمي، فراقٌ لا وصالَ بعده، سأله صديقه يومها عن برجها أو بأي شهرٍ وُلدت وقال له: أنت الجدي لن تتوافقا صدقني، لم يُعر لكلامه انتباهاً يومها أبداً ولم يكن حتى بمزاج رائقٍ لأن يُجادل صديقه أو يُناقشه، ولكنه الآن يردد لنفسه: الجدي الجدي، ودون أن يراه زميله نقر على أزرار الكمبيوتر أمامه وفتح صفحة تحكي عن الأبراج وبحكم أنه غير مطلع ولا خبير ولا يرغب بسؤال الخبير، استغرق دقائق إضافية ليجد صفحة عالمية تنقل وتتنبأ باحتراف عما سيحصل وتفسر له لمَ حدث معه هذا وذاك، وبدأ بقراءة برج الجدي: اليوم ليس يوم سعدك(ربما قرأها زميله فاستقبله بها عندما دخل) ستُواجه عثرات وعقبات في عملك حاول أن تتجاوزها ولا تستسلم وعلى الصعيد العاطفي شعورك بالحنين للماضي لن يعيده فلا تترك نفسك أسيرا للماضيوالذكريات وحاول الابتعاد عن كل ما يُذكرك به، وأما على الصعيد الصحي فالقولون العصبي يهددك إن لم تنتبه لغذائك جيدا، أكثر من شرب الماء، هو فعلا يُعاني من نوبات قولون متقطعة تأتي في أوقاتٍ غير محددة ويبدو أن هذا اليوم هو أحدها.

أغلق الصفحة على جهازه شاعراً ببعض التقلصات وبدوارٍ خفيف، هل ما قرأه محض مصادفة أم أن الأبراج والأيام التي وُلدنا فيهاتتحكم فعلا بمصائرنا وخطط حياتنا، بكل الأحوال هو متفقٌ تماما مع ما قرأه في برجه، وبطريقة ضمنية قرر أن يُتابع الأمر لعدة أيام ولكن لن يُخبر أحدا فالتراجع عن الكلام ليس من الرجولة، هكذا تعلّمولن يسلم من تعليقات زملائه.

في المساء وبعد تناول اثنتين من قطع الدجاج المقلي على العشاء شعر بالغثيان، فوراً تذكر نوبات القولون التي من المُفترض أن تُصيبه ولم يقل كعادته عندما يصيبه هذا الغثيان بعد تناول أي وجبة من مطعم ما، كان يُطلق الحكم فورا: المطعم غير نظيف لن نأكل منه مرةً أخرى ويوصي زوجته أن تحرص ألا يتناول الصغار من الطعام، أما اليوم فالوضع مختلف لابد أن الغثيان هو بداية نوبة القولون فأسرع بأخذ حبة مُسكن احتياطا كيلا يزيد الألم، شعر بالانتصار لأنه سبق المرض الذي كان سيُداهمه.

 في صباح اليوم التالي استيقظ بحماس وكأن اكتشاف عالمٍ جديد أخرجه من دائرة الروتين الممل التي يدور بها مُرغماً بين المنزل والعمل وشراء حاجيات البيت، قّلما يجد وقتاً لنفسه، كان مُستسلماً تماما للدوامة التي يعيش بها ولا يُفكر بالتغيير كونه مسؤول عن أسرة وعمله يؤمن لهم الدخل الكافي ولو كان على حساب سرور وإشراق (أسمر)، ركب السيارة وأنزل الصغيرة وأدار المذياع ليسمع توقعات الأبراج التي تُبثُ في هذا الوقت، كان يغير المحطة أو يخفض الصوت ريثما تنتهي فقرة الأبراج أما اليوم فهو يسمع بتركيز شديد صوت المذيعة التي تُخبره عن نفسه : عزيزي صاحب برج الجدي على الصعيد المهني يتوقع علماء الفلك لك خلال الفترة المقبلة حدوث تغيرات إيجابية في حياتك المهنية، فربما تتلقى مكافأة نظير اجتهادك في عملك، وعلى الصعيد العاطفي قد تقع بعض المشكلات بينك وبين شريك حياتك بسبب سوء التفاهم والغيرة، أغلق المذياع  وأكمل طريقه، ما سمعه لم يتعدّى الكلام العام الذي ينطبق على أي أحد، عقله الحاضر لم يسمح له بالاقتناع رغم رغبته بالتصديق ومعرفة ما سيحدث معه ليعرف كيف يتصرف اليوم هكذا قرأ بالأمس بأن معرفة برجك تساعدك على التصرف بطريقة أكثر ذكاءً وتُساعدك على تخطي بعض المشكلات، أمضى يومه يبحثُ في عوالم الأبراج ويقرأ ما لم يُفكر بقراءته من قبل، لم يحتج الأمر منه بحثاً طويلا فعقيدة أسمر ثابتة رغم سقطاته وعثراته وتعثره ببعض المعاصي والأخطاء أحياناً إلا أنه نشأ في بيئة وأسرة عزَّزت التوحيد عنده بشكلٍ ثابت كثبات أقوى الجبال، الإيمان والتصديق بما يقوله قارئو الأبراج كل صباح هو تنبؤ بالمستقبل وهو ما لا يعلمه إلا الخالق، هو تماماً تحقيقٌ وتجسيدٌ لحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) : كذب المنجمون ولو صدقوا.

صدقوا !! إذاً يَصدقون أحياناً أي تُحقق بعض النبوءات كمصادفاتٍ لا أكثر وحتى لو تحققت جميعها فنحن مأمورون بالبعد عن كل ما نُهينا عنه، المستقبل والغيب بيد الله وحده ولا مُطلع عليه سواه، ولو كنا نعلم الغيب لاستكثرنا من الخير، ولكُلِّ مجتهد نصيب،وعاطفياً كم نظن الخيرة بأحدٍ أو بمكان ويكون خلاف ذلك تماماً، الفراق أو الارتباط لن يُحدده يومٌ وُلدت فيه أو وُلد فيه من ترغب أن يكون شريكك هو قدرٌ ونصيب ولن يُعطيك الله إلا ما هو خيرٌ لك فارضَ.

هذا ما خلص له أسمر في نهاية اليوم، صار أكثر قوةً وثباتاً على رأيه ومُستعدٌ لأي نقاش مع أي أحد يُمازحه بهذا الموضوع لا سُخريةً كما كان ولكن اقتناعاً وقدرةً على الإقناع.

في طريق العودة للبيت في نهاية النهار شعر أسمر أنه بدأ بالدخول مجدداً لتلك الدائرة التي تدور تماماً كما يدور الهمستر بنفس المكان والروتين اليومي، الخروج من تلك الدائرة ولو كان خروجاً ذهنياً فقط لا جسدياً وإضافة أي جديد لحياته أمرٌ أسعده أعطاه حماسا للحياة وكأنه أيقظ شيئا كان نائماً داخله خافتاً، قرر أسمر إضافة  بعض (الأكشن) إلى حياته بين فترةٍ وأخرى بتعلم شيءٍ جديد أو التعرف على صديقٍ جديد أو حتى تجربة أمرٍ جديد لم يسبق له أن جربه، كلعب كرة القدم مثلاً وعدم الاكتفاء بمشاهدتها من خلف الشاشات أو ركوب دراجة كما كان يفعلُ في صغره، غيّر وجهته رغم الإرهاق الخفيف الذي يشعر به مُتجهاً إلى أحد محلات بيع الدراجات وحمل معه إحداها عائداً للمنزل بقرار إضافة بعض اللمسات لحياته لتكون أكثر إشراقاً وتفاؤلاً بعيداً عن الرغبة بمعرفة ما يُخبئه له القدر.

خرج في نهاية الأسبوع مع الصغار في رحلة طويلة على الدراجات وبحضنٍ قويٍ طويل لهم رأى ولمس معنى الإشراق المُنبعث من هذه المخلوقات اللطيفة.

الخروج من دوامة الحياة والروتين اليومي أو حتى الأسبوعي أمرٌ ضروري لكيلا نخفت وننطفئ، أحيانا الاكتفاء بفنجان قهوة لذيذ تعده بنفسك وتحتسيه بهدوء وتروٍ يكون هو كل ما تحتاجه وأحياناً أخرى لا بد من إضافة الأكشن للحياة والقيام بأمر غير اعتيادي أو رحلة غير اعتيادية ولو لساعات قليلة يكون كافياً لإشعال فتيل الحماس لأيام، مع ترك الماضي في الماضي وترك المستقبل للمستقبل فلا حمل هذا معنا سيُفيد ولا معرفة الآخر سيُسعد، عش يومك وابنِ مُستقبلك بيدك لا بيد من ينظرون للنجوم ويُخبروك بما ستكون عليه.

ولا بأس وحرج لو فعلنا كما فعل أسمر وجربنا النزهة بالدراجات مع الصغار.

 

 

 

 

أسماء السكاف

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock