كتاب أكاديميا

فاطمة السلمان تكتب: كن طفلا… راشدا

 في أيام الطفولة التي خلت، كانت السعادة عنوان حياتنا، نزين بها أوقات لعبنا الطويلة، ونرسمها نهايةً لجميع قصصنا التي نحاول انتقاء كلماتها ببراءة لنرويها لمن حولنا.. ولتتضح الصورة، دعني أعود قليلا إلى الوراء وآخذك معي برحلة في أرجاء الذاكرة. انظر هناك، حيث ذاك الطفل الصغير. في هذه اللحظة تبحث عيناه بلهفة عن السعادة، فتوجِد لها أسبابا في كل شيء تراه، فالهدايا ورغم بساطتها كفيلة بأن تجعل تلك النبضات الصغيرة تتراقص وتغني ألحان السعادة. وفي لحظة أخرى يمد له أحدهم بمبلغ زهيد فيختطفه والدنيا بعينيه مضيئة بالفرح. وفي مشهد آخر تعلو الضحكات الطفولية معبرة عن سعادة غامرة بنزهة على الشاطئ.
 إني أرى السعادة حاضرة جلية في كل التفاصيل الصغيرة. والآن، سنعود رويدا رويدا إلى واقعنا. إني أكاد لا أرى في واقع الراشدين سوى السعادة الزائفة التي تظهر على هيئة ابتسامات صفراء، فبعد أن كنا أطفالا نجري خلف السعادة، كيف أصبحت هي التي تنتظرنا وبكل بساطة ندير عنها وجوهنا ونلهث خلف الحوادث والقصص المثيرة؟ أصبح كل همنا متابعة الأخبار التي قد تثير في نفوسنا خليط من تفاعلات كثيرة في عددها مختلفة في تأثيرها بين خوف وحزن وغضب وتعصب وحسد، أشغلنا عن السعادة نمط حياتنا المتسارع، فأصبح كثير منا حين يصف نفسه بالسعادة لا يدري بأنها السعادة الكاذبة، إني أرى الكثيرين وقد أصبحوا يضيقون معناها، فيعتقد أحدهم إنه سعيد بكثرة ماله، أو بسياراته الفارهة، ويأتي آخر فيتحدث عن سعادته بالإجازة التي قضاها بجولة حول العالم، وتجد تلك التي تظن نفسها ملكت سعادة الدنيا وهي تتبع أحدث صيحات الموضة وتشتري السلع بأغلى الأثمان من أشهر العلامات التجارية، وذاك الذي يسعى جاهدًا خلف الشهرة ظنا منه بأنها هي السعادة.
 أما الواقع فهو أن مفهوم السعادة الحقيقية مختلف. لكن أولاً يجب الاعتراف بأنه لا يمكن تجاهل الماديات سالفة الذكر وما تحققه من سعادة جزئية، أما السعادة الصادقة فمنبعها قلبك، حين يكون صافيا لا يحمل حقدا ولا كرها. وتنتاب السعادة الفرد منا حين يؤدي فروضه خالصة لوجه ربه ويبر بوالديه، وسيشعر بها تسري في جسده حين يتصدق على فقير فيبارك الله له في ماله ويصنع بسمة على وجه حزين، وقد يجد معنىً للسعادة حين يتأمل فرحة طفل يخطو أول خطواته، وقد يراها متجسدة في دمعة من عين أم تنطق بالفرح بعودة ابنها المغترب منذ أعوام متوجا بشهادته. وما من شك في أن من أعمق مسببات السعادة أثرا هو رضاك عن نفسك وتقديرك إنجازاتك على الصعيدين المهني والشخصي، فالسعادة وردة، فاجعل من روحك لها أرضًا خصبة تنمو فيها، ومن نقاء قلبك معينا يسقيها.
 إذن ها نحن نصل إلى أن معنى السعادة واسع كبير، لا تحده المظاهر الكاذبة، بل تظهره المعاني الصادقة. وبعد هذه الكلمات توقف قليلا.. ثم أعد القراءة من جديد، وانظر في مفهوم السعادة لديك، لعلك تراه قد بدأ يتغير، وكما قال مصطفى المنفلوطي: “حسبك من السعادة في هذه الدنيا: ضمير نقي، ونفس هادئة، وقلب شريف، وأن تعمل بيديك“.
 دعونا نحيي طفولتنا من جديد، فما أجمل أن تملك قلب طفل سعيد، وعقل راشد سديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock