ديوانيات الأكاديميين التي أعرفها متعددة
|أ. د. عبداللطيف بن نخي|
ديوانيات الأكاديميين التي أعرفها متعددة، وهي في مجملها منتديات تتبع المنهجية العلمية في تبادل الآراء ومناقشة الأفكار وفحص الأطروحات بقصد تقييمها وتقويمها. ولكن ديوانية الأكاديميين في منطقة القادسية تتميز بتبنيها لدرجات عالية من الحرفية والصراحة في الحوار البناء. صراحة تخترق حاجز المجاملات الاجتماعية فتكسره لتتوغل في فضاء الطرح الموضوعي المحصن بأسوار اللياقة واللباقة التي تمنع السقوط في هاوية التجريح الشخصي. لذلك يحرص على التواصل معها كل من يبحث عن رأي الأكاديميين فيما يحمل من رؤى خلاقة. من بين المبادرات القيمة التي استضيفت في تلك الديوانية، مشروع «الكويت عاصمة النفط في العالم»، قبل ما يزيد على عامين.
في هذه الندوة، أوضح رئيس المبادرة وزملاؤه بأن المبادرة تستهدف تحول جذري في منهجية استثمارنا لثروتنا النفطية. فبدلا من تصدير النفط في براميل سوداء، إلى أسواق متذبذبة عانت من أزمات جلطت السيولة المالية في الدورة الاقتصادية في بعض الدول المنتجة، ينبغي شحنه في حاويات ذهبية إلى أسواق متعطشة له. لسنا بصدد مغامرة أو فكرة خيالية كتلك التي عرضها فؤاد باشا على عبدالحسين عبدالرضا، بل نحن أمام مسار اقتصادي يتجه نحو استدامة التنمية الوطنية وفق المؤشرات الابتدائية المشجعة.
المبادرة تدعو إلى تقليل اعتماد اقتصادنا الوطني على بيع النفط الخام والعمل على استحداث مصادر أخرى متنوعة للدخل تتوافق مع الموارد الطبيعية المتوافرة وتتناغم مع الخبرات المهنية المتاحة. المورد الطبيعي الرئيس في الكويت هو النفط، وكمياته المكتشفة في تنامي، ومن المتوقع أن تكفي لما يزيد على مئة عام حيث إن احتياطيات النفط الخام المؤكدة للكويت في نهاية عام 2013 كانت 101.5 مليار برميل، وهي قابلة للزيادة بعد إجراء مسح ثلاثي الأبعاد على بقع لم يتم تغطيتها في السابق. كما تشير الدراسات المبدئية، وفقاً لمعايير النسبة والتناسب، إلى أن الكويت تمتلك 10 مليارات برميل من احتياطي النفط الصخري. من جانب آخر تمتلك الكويت خبرات عريقة في الصناعات النفطية تمتد لما يزيد على 65 عاما، وتفخر بتجربتها في الصناعات التكريرية التي ارتبطت بمستوى تقني رفيع، وتعتز بسجلها الطويل في تزويد آمن للأسواق العالمية بمشتقات بترولية ذات مواصفات عالية.
المبادرون يرون ضرورة تخفيض معدلات بيع الكويت للنفط الاسود كسلعة والتوجه نحو الخيار الذهبي المتمثل في استغلاله كمادة خام في مساري الصناعات النفطية: الأول يشمل المنتجات البترولية المكررة وفي مقدمها المحروقات المختلفة، والثاني يتضمن الصناعات البتروكيماوية لإنتاج سلع استهلاكية ومواد أولية للعديد من الصناعات الحديثة، ومن بين ما يميز هذا المسار هو توافقه مع المساعي العالمية لاستخدام الطاقات المتجددة.
من ناحية أخرى تشترك هذه المبادرة في مساحة كبيرة مع رؤية صاحب السمو في تحويل الكويت إلى مركز مالي عالمي، فكلاهما يتطلب تطوير البنية التحتية المالية والاقتصادية والثقافية، وبناء القدرات الوطنية، وتحويل الاقتصاد الوطني من ريعي إلى انتاجي، وتوطين التكنولوجيات الحديثة، فضلا عن تنمية المناخ الاستثماري.
وعلى الرغم من إعجابي بالمبادرة إلا انني كنت من بين من تحفظ عليها، بسبب تخوفي من المردود البيئي للاستثمارات النفطية المنظورة والفساد المالي المتربص، وأشرت في مداخلتي إلى ثلاث قضايا ساخنة في وقتها، تبرر قلقي، وهي أزمة التلوث البيئي في أم الهيمان وكارثة «الداو كيميكال» وفضيحة تضخم حسابات النواب. باختصار الحالة السياسية في وقتها كانت حاضنة للفساد، ومن الخطورة بمكان الإقدام على تنفيذ مشاريع ضخمة.
طمأنني المحاضرون بأن حماية البيئة ومكافحة الفساد من دعامات مبادرتهم لأنهما من المتطلبات الأممية في الألفية الثالثة، وأن من بين الذين ساهموا في إعداد وثيقة المبادرة خبراء في البيئة والاقتصاد ومنظومات النزاهة والشفافية، كما أنهم بصدد دعوة شخصيات مرموقة ومتخصصة، في تلك المجالات وفي غيرها، لمباركة المبادرة وتسجيل ملاحظاتهم عليها من أجل تحسينها.
اليوم، وبعد التطورات الجوهرية التي حصلت على الصعيدين البيئي والرقابي، أنقل بقلمي هذه المبادرة إلى وزارة التعليم العالي بمنطقة شرق. فعلى المستوى البيئي، نجد بأن العلم تطور كثيرا في مجال تخفيض الآثار السلبية للنفط على البيئة من خلال تكنولوجيات مبتكرة مثل تطبيقات تكنولوجيا النانو في مكافحة التسربات النفطية. وأيضا في البعد الرقابي، تم إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد واقترب موعد صدور لائحتها التنفيذية وأعلن رئيسها عن أولوية تطبيق إقرار الذمة المالية للمسؤولين في السلطات الثلاث.
لذلك أناشد الوزارة بالتعاطي الايجابي مع المبادرة كصانع لسوق عمل كبير يحتاج كوادر وطنية متخصصة في العديد من المجالات. وأدعوها لعقد حلقة حوارية، بين ممثلين عن المبادرة وعن المؤسسات الأكاديمية والبحثية الحكومية والخاصة، للإطلاع على أبعاد المبادرة الواعدة واحتياجاتها من الكوادر المؤهلة والقدرات البحثية المناسبة. تلبية هذه الاحتياجات تتطلب سلسلة طويلة من الاجراءات التي قد تمتد لعشر سنوات إذا ما أخذنا في الاعتبار الحاجة لإنشاء مبانٍ جديدة. الأكاديمي الفطن لا يلدغ من جحر بالشدادية مرتين