أنجح تعليم في العالم فنلندي.. والسر يكمن في «المعلم الكفء»
الكل يحظى بنفس قسط التعليم.. فقراء وأغنياء على السواء
هذه الأيام، وفي حين يستعد الطلبة في كثير من البلدان للعودة إلى مقاعدهم الدراسية، لينطلق عام دراسي جديد، قد يحاول أحد المسؤولين التفكير في الصورة الكبيرة للعملية التعليمية في بلاده، ويسأل نفسه الأسئلة التالية:
هل هناك طريقة أفضل لتعليم طلابنا؟ هل النظام التعليمي الوطني بوضعه الحالي يفي بمتطلبات القرن الحادي والعشرين؟ ويبقى السؤال الأهم: إذا قررنا التفكير خارج الصندوق، فكيف سيكون شكل النظام التعليمي إذا كان بالإمكان البدء من الصفر؟
هذه الاستفسارات تشغل بال المعنيين بالعملية التعليمية في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. وفي سعيهم للبحث عن الإجابات الصحيحة لتلك الأسئلة، تحط رحال هؤلاء في شمال أوروبا في بلد صغير لا يزيد تعداد سكانه على 5.5 ملايين نسمة، هو: فنلندا.
فعلى الرغم من أنها تشتهر بتجنّبها إجراء الاختبارات التنافسية العالية، تتلقى فنلندا الكثير من الإشادة على نتائج طلابها في برنامج تقييم الطلاب الدوليين الذي تجريه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كل ثلاث سنوات لاختبار أداء الطلبة في العلوم والقراءة والرياضيات.
رغم معرفتها.. فلماذا يصعب تكرارها؟
– إدراكاً منهم لنجاح فنلندا في مجال التعليم الذي لا تخطئه عين، زار القائمون على العملية التعليمية في حوالي 50 بلداً من جميع أنحاء العالم الدولة الواقعة في شمال القارة الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية لمحاولة معرفة أسرار نجاح النظام التعليمي هناك.
– ما وجدوه كان مفاجئاً إلى حد ما. فعلى الرغم من إمكانية كثير من البلدان نسخ أجزاء من النظام التعليمي الفنلندي، إلا أن الأسباب الثلاثة الأهم التي تقف وراء نجاح فنلندا في هذا المجال، يصعب في الغالب على الكثير تقليدها أو تكرارها.
– أولاً وقبل كل شيء، هناك غياب شبه تام للفقر، ولا يمكن أن ينعكس الوضع المادي للآباء بأي شكل على جودة التعليم المقدم لأبنائهم. فهناك نظام تأمين صحي واسع النطاق وتمويل حكومي ضخم للعملية التعليمية؛ لذلك يأتي الأطفال إلى المدرسة بصحة جيدة وعلى استعداد للتعلم.
– السبب الثاني هو طلاقة الطلبة في اللغات، حيث إن معظم الطلبة الفنلنديين يعرفون ثلاث لغات: الفنلندية والسويدية، والإنكليزية. وعلى الرغم من أن الطلبة هناك لا يبدأون التعليم الرسمي قبل سن السابعة، فإنه يصبح بإمكانهم القراءة والكتابة في نهاية السنة الأولى.
– أما السبب الثالث، فهو حجم الاحترام والثقة الذي يحظى به المُعلم من جميع أفراد المجتمع الفنلندي. وأحد أسباب تقديس الفنلنديين مهنة التعليم هو مدى صعوبة جعل أحدهم معلماً. فمن بين كل 10 متقدمين لشغل وظيفة معلم لا يتم قبول سوى شخص واحد، ولا يمكن أن يحمل المعلم هناك درجة علمية أقل من الماجستير.
لم تولد على القمة
– لعل الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في نجاح فنلندا في المجال التعليمي هو طريقها إلى القمة. فقبل ما يقرب من عدة عقود كان الوضع التعليمي في البلاد سيئاً للغاية، وذلك أثناء محاولتها الخروج من شرنقة النفوذ السوفيتي في الستينات، قبل أن تقرر في لحظة ما مواجهة الأمر لتقوم بإعادة النظر في هيكل نظامها التعليمي.
– في عام 1963، اتخذ البرلمان الفنلندي قرارا جريئا باعتبار التعليم الوسيلة الوحيدة التي يمكن للبلاد من خلالها استعادة عافيتها الاقتصادية. أدرك وقتها المسؤولون الفنلنديون أنهم إذا أرادوا المنافسة فهم بحاجة إلى تثقيف كل فرد بالمجتمع.
– أيضاً، ما يثير إعجاب كل متابع للتجربة الفنلندية أثناء ذلك التحول هو حجم الصبر الذي أظهرته تلك البلاد.
– ببساطة، الفنلنديون على خلاف كثير من البلدان لم ينظروا تحت أقدامهم وقاموا بالتفكير والتخطيط للمدى الطويل، فمثلاً أدركوا أن توفير الفيتامينات التي تحتاجها النساء الحوامل قبل الولادة سيساهم في تزويد المجتمع بعد 25 عاماً بفرد عالي الإنتاجية.
– أكبر مفاجأة قد يجدها الزوار للمدارس الفنلندية، هي الغياب شبه التام للتكنولوجيا. فلا يمكن أن ترى أي طالب في المدرسة لديه جهاز كمبيوتر محمول أو تابلت، أما خارج المدرسة، فيمتلك معظم الطلاب اثنين أو ثلاثة من أحدث الجوالات الذكية.
– إحدى الحكايات التي توضح الفرق بين الثقافة الفنلندية والثقافات الأخرى، هي سؤال وجهه مسؤول من أحد البلدان لأمناء المكتبات في فنلندا حول كيفية قيامهم بتنقية الإنترنت للحيلولة دون تعرّض الطلبة لمواد غير مرغوبة. كان الرد الذي تلقاه هو «أن الطلبة يعرفون أن هذه الحواسيب للتعلم، وأن أدوات الفرز والتنقية تقبع في رؤوس الطلبة».
– في عام 1979 اتخذت الحكومة الفنلندية قراراً كان حاسماً في مصير النظام التعليمي بالبلاد، حيث طالبت كل معلم بالحصول على درجة الماجستير من واحدة من ثماني جامعات حكومية على نفقة الدولة. ومنذ ذلك الحين يحظى المعلمون بوضع اجتماعي يتساوى مع وضع الأطباء والمحامين، وزاد الإقبال على المهنة ليس بسبب رواتبها العالية فقط، وإنما بسبب درجة الاحترام التي يتمتع بها شاغلها.
– آخر تغيير رئيسي قامت به فنلندا في مجال التعليم، هو تخفيف وتقليص حجم المناهج الدراسية وإعطاء المعلمين المزيد من السيطرة، فالحكومة ترغب في الوصول بالطلبة إلى مستوى علمي معيّن، ولكنها تسمح للمدرسين بتحديد كيفية وصول الطلبة إلى ذلك المستوى، وهذا النهج يتعارض بالطبع مع طريقة إدارة الأنظمة التعليمية في كثير من البلدان.
السطر الأخير
– هناك كثير من الدروس التي يمكن تعلمها من التجربة الفنلندية في مجال التعليم. على سبيل المثال، تحاول فنلندا تجنب خلق بيئة تنافسية بين الطلبة، فهناك لا يتم ترتيب المدارس، بعضها ضد بعض، ولا يتم التقليل من قدر المعلم، ولا يقع الطلبة تحت ضغط مكثّف من أجل الالتحاق بالكلية.
– ببساطة، حرص صانعو السياسات التعليمية في هذا البلد على خلق بيئة تعليمية جيدة تدعم الابتكار، جعلت الكثيرين يتشكّكون في أن هوسهم بثقافة الاختبارات ومفاضلة الطلبة بعضهم أمام بعض لن يجديا نفعاً أو ينتجا مواطنين أفضل. (أرقام)