كتاب أكاديميا

د. شاكر الأشول يكتب: لا طفل عربي يبقى في الوراء

‏تحت الشجرة، في فناء مسجد القرية أو الحارة جلس المعلم أو الفقيه ومن حوله الطلاب يرددون بعض الآيات القرآنية. 

 كان بعضهم يمسك ألواحاً خشبية يكتب عليها بأعواد تغمس بقارورة مداد بعض تلك الآيات الكريمة، لم تكن هذه العملية التعليمية لتكلف كثيراً، فليس هناك كهرباء ولا تكنولوجيا، والفقيه أو المعلم يكفيه ما يعطيه أهالي الطلاب في نهاية الأسبوع من بيض أو سمن أو ربما بعض العملات المعدنية الصغيرة.

  في تلك البيئة كان الطالب مع أسرته يتحملون مسؤولية تعليمه، يجلب الطالب اللوح، ويروح فيبحث عن الشجر والأعشاب المناسبة لصنع “قلمه” للكتابة على لوحه، ثم يجمع من النباتات ما يمكن عصره؛ ليستخدمه كمداد للنقش على اللوح.

 الصورة التي رسمناها ليست بعيدة كثيراً عن واقعنا زمنياً، ولذلك فلا زالت هي الخلفية التي تلقي بظلالها على واقعنا اليوم وبيئتنا واستثمارنا في مجال التعليم، ولا زالت الفلسفة هي نفسها، فالطالب هو المسؤول الأول والأخير عن تحصيله ونجاحه، ينجح من ينجح، ويتقدم من يتقدم، ويبقى بالوراء كل من لا يستطيع التقدم.  

في مشهد آخر ربما يجتمع طلاب العلم حول شيخهم في أحد المساجد بين العصر والمغرب أو المغرب والعشاء؛ لينهلوا من علمه حول موضوع من علوم الشريعة واللغة العربية، هذه البيئة التعليمية لا تتطلب الكثير، فالمسجد مبني للصلاة، والشيخ يتقاضى راتبه من سلطة البلاد أو يتطوع بعلمه، والطلاب يفترشون الأرض يكتبون ويحفظون ما أمكنهم. يتعلم من يتعلم، ويتخلف من يتخلف، وفي الأخير تلك المسؤولية تقع على عاتق الطالب، فمن أراد التعلم واقتدر على النجاح كان ذاك نصيبه، ومن لم يستطع فشل وابتعد وكانت تلك مسؤوليته.  

المشهدان من القرن التاسع عشر، في بعض المجتمعات العربية من الخمسينات للقرن العشرين وربما بالظاهر يبدو أن الكثير قد تغير، فقد تم بناء المدارس المخصصة للعملية التعليمية، وقامت الجامعات بتدريس مجال التربية والتعليم، وتخرج منها مئات الآلاف من المدرسين في الوطن العربي، وهنالك ملايين من الكتب المقررة المطبوعة، وفي بعض المدارس بعض الأجهزة والكمبيوترات، لكن ما لم يتغير هو فلسفة أن التعليم ما زال مسؤولية الطالب وأسرته، فنجاحه وفشله يرجع إليهم، بغض النظر عن بيئته ومعلميه وظروف تعليمه وحتى حاجاته الخاصة، وربما أيضاً المعوقات البيولوجية والذهنية التي يعيش معها.

عندما بدأت الدول العربية بعد ثوراتها وبعد الخمسينات بنشر التعليم عن طريق بناء المدارس، كان بناء المدرسة وتوفير كادرها المتمثل في المدرسين والمدرسات والطاقم الإداري وتوفير المقررات هو جل متطلبات العملية التعليمية.  

ولسنين طويلة كان ذلك كل ما تحتاجه هذه المجتمعات لتقول: إن لديها أنظمة تعليمية ومدارس تعلم أبناءها وبناتها.   

مع مرور الوقت ومع التطور التكنولوجي الذي فرض الحاجة إلى تعليم مختلف، ومع تطور المفاهيم حول احتياجات الطلاب وتحدياتهم البيولوجية والذهنية في التعلم تحملت المدارس في أنظمة كثيرة غير عربية مسؤولية أكبر في تعليم أبنائها وبناتها، فصارت توفر تعليماً موجهاً لذوي الاحتياجات الخاصة، بينما بقي العرب يقدمون تعليماً واحداً بنفس المقاس لكل الطلاب بغض النظر عن أوضاعهم واحتياجاتهم، وعندما التفتت الأنظمة في الوطن العربي لذوي الاحتياجات الخاصة بدأوا في فصل الحالات الأشد حاجة في مدارس خاصة أو في تجمعات تعزلهم عن الآخرين.   

في الحقيقة لم تلتفت الأنظمة التعليمية لتلك الاحتياجات وتحديات وإعاقات التعليم في حياة الطلاب، حتى بدأوا يدرسون الأنظمة الغربية والشرقية ويدركون أن توفير أربعة جدران مع سقفها لم يعد كافياً لتقول إن لديك مدرسة، وأن المدرسة اليوم أصبحت أكثر من مجرد بناء إسمنتي يحتوي الطلاب لساعات معينة، وأن الدروس لم تعد محصورة على القراءة والرياضيات والعلوم والوطنية؛ بل إن التكنولوجيا والفنون والهندسة والبرمجة أصبحت جزءًا أصيلاً منها.  

حتى أصبحت للمدرسة اليوم معايير، ومنهج ومدرس مؤهل يتلقى التدريب المستمر وتكنولوجيا تعليمية توصل المعلومة بطرق مختلفة، وتكون أداة متوفرة للطالب للبحث والإنشاء والإبداع، والمدرسة اليوم أيضاً لم تعد معلماً للرياضيات والعلوم والقراءة فقد أصبحت أيضاً مشرفاً اجتماعياً ومشرفاً نفسياً ومعلمين ومتخصصين يدرسون إعاقات وتحديات الطلاب الخاصة ويوفرون لهم البيئة التعليمية والبرنامج التعليم المناسب لمساعدتهم على اكتساب المعرفة والانتصار على تحدياتهم، سواء كانت بيولوجية أو ذهنية.   

المدرسة التي نحلم بها لأبنائنا وبناتنا لا يمكن أن تأتي إلا نتيجة اقتناع بأن التعليم هو الاستثمار الأمثل، وأن التعليم بكل جوانبه من بناء المدرسة إلى توفير المعلم، إلى توفير البيئة، إلى التعامل مع التحديات الشخصية للطلاب هو مسؤولية المجتمع والمدرسة.  

في الولايات المتحدة الأميركية كان قانون “لا طفل يبقى في الوراء” الذي صدر في 2001 في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بمثابة نقطة تحول في جعل المدرسة هي المسؤول الأول عن تعليم الطالب الأميركي. فرض القانون فلسفة جديدة لم تسمح للمدارس بإلقاء اللوم على الوضع الاجتماعي والأسري أو حتى التحديات الخاصة للطالب، فقد تحول النقاش من نقاش لوم يضعه المسؤولون عن التعليم على الأسرة والمجتمع، إلى نقاش حول ما يمكن للمدرسة أن تفعله لهذا الطالب الذي يواجه تحديات أكاديمية، وربما إعاقات جسدية أو ذهنية، أو مشاكل نفسية، فقد أصبح نجاح المدرسة وتصنيفها معتمداً على قدرتها على مساعدة كل طالب على النجاح، واكتساب المعرفة التي سيحتاجها للنجاح جامعياً ومهنياً.  

في الوطن العربي نحتاج أيضاً إلى تبني فلسفة “لا طفل عربي يبقى بالوراء”، فبدون تلك الفلسفة وبدون ذلك الهدف ستظل مدارسنا مجرد صروح إسمنتية أقرب إلى السجون منها إلى بيئات تعليمية لكسب التجارب المعرفية والعلمية. 

  وبدون تلك الفلسفة سيبقى الاستثمار في التعليم وطريقة إدارته تقليدية في زمن أصبحت الطريقة التقليدية لإدارة التعليم لمواجهة تحديات المستقبل عاجزة وفاشلة.  

 وبدون تلك الفلسفة سيبقى المدرسون والمدرسات يقدمون دروساً روتينية تلقينية لا تفيد الغالبية من طلابهم، وبدون تلك الفلسفة سينجح بعض طلابنا وطالباتنا ويتميز البعض القليل لكن الناجحين والمتميزين لن يكونوا أبداً قادرين على النهوض بالمجتمع، وستبقى الغالبية من طلابنا بتعليم عقيم غير قادرين على أداء دورهم والنهوض باقتصادهم ومجتمعهم في عالم تنافسي يفرض على الجاهل والمتخلف أن يبقى بالوراء.‏المعذرة تم الإرسال قبل أن أعنون المقال “لا طفل عربي يبقى في الوراء”
‏تحت الشجرة، في فناء مسجد القرية أو الحارة جلس المعلم أو الفقيه ومن حوله الطلاب يرددون بعض الآيات القرآنية. 

 كان بعضهم يمسك ألواحاً خشبية يكتب عليها بأعواد تغمس بقارورة مداد بعض تلك الآيات الكريمة، لم تكن هذه العملية التعليمية لتكلف كثيراً، فليس هناك كهرباء ولا تكنولوجيا، والفقيه أو المعلم يكفيه ما يعطيه أهالي الطلاب في نهاية الأسبوع من بيض أو سمن أو ربما بعض العملات المعدنية الصغيرة.

  في تلك البيئة كان الطالب مع أسرته يتحملون مسؤولية تعليمه، يجلب الطالب اللوح، ويروح فيبحث عن الشجر والأعشاب المناسبة لصنع “قلمه” للكتابة على لوحه، ثم يجمع من النباتات ما يمكن عصره؛ ليستخدمه كمداد للنقش على اللوح.

 الصورة التي رسمناها ليست بعيدة كثيراً عن واقعنا زمنياً، ولذلك فلا زالت هي الخلفية التي تلقي بظلالها على واقعنا اليوم وبيئتنا واستثمارنا في مجال التعليم، ولا زالت الفلسفة هي نفسها، فالطالب هو المسؤول الأول والأخير عن تحصيله ونجاحه، ينجح من ينجح، ويتقدم من يتقدم، ويبقى بالوراء كل من لا يستطيع التقدم.  

في مشهد آخر ربما يجتمع طلاب العلم حول شيخهم في أحد المساجد بين العصر والمغرب أو المغرب والعشاء؛ لينهلوا من علمه حول موضوع من علوم الشريعة واللغة العربية، هذه البيئة التعليمية لا تتطلب الكثير، فالمسجد مبني للصلاة، والشيخ يتقاضى راتبه من سلطة البلاد أو يتطوع بعلمه، والطلاب يفترشون الأرض يكتبون ويحفظون ما أمكنهم. يتعلم من يتعلم، ويتخلف من يتخلف، وفي الأخير تلك المسؤولية تقع على عاتق الطالب، فمن أراد التعلم واقتدر على النجاح كان ذاك نصيبه، ومن لم يستطع فشل وابتعد وكانت تلك مسؤوليته.  

المشهدان من القرن التاسع عشر، في بعض المجتمعات العربية من الخمسينات للقرن العشرين وربما بالظاهر يبدو أن الكثير قد تغير، فقد تم بناء المدارس المخصصة للعملية التعليمية، وقامت الجامعات بتدريس مجال التربية والتعليم، وتخرج منها مئات الآلاف من المدرسين في الوطن العربي، وهنالك ملايين من الكتب المقررة المطبوعة، وفي بعض المدارس بعض الأجهزة والكمبيوترات، لكن ما لم يتغير هو فلسفة أن التعليم ما زال مسؤولية الطالب وأسرته، فنجاحه وفشله يرجع إليهم، بغض النظر عن بيئته ومعلميه وظروف تعليمه وحتى حاجاته الخاصة، وربما أيضاً المعوقات البيولوجية والذهنية التي يعيش معها.

عندما بدأت الدول العربية بعد ثوراتها وبعد الخمسينات بنشر التعليم عن طريق بناء المدارس، كان بناء المدرسة وتوفير كادرها المتمثل في المدرسين والمدرسات والطاقم الإداري وتوفير المقررات هو جل متطلبات العملية التعليمية.  

ولسنين طويلة كان ذلك كل ما تحتاجه هذه المجتمعات لتقول: إن لديها أنظمة تعليمية ومدارس تعلم أبناءها وبناتها.   

مع مرور الوقت ومع التطور التكنولوجي الذي فرض الحاجة إلى تعليم مختلف، ومع تطور المفاهيم حول احتياجات الطلاب وتحدياتهم البيولوجية والذهنية في التعلم تحملت المدارس في أنظمة كثيرة غير عربية مسؤولية أكبر في تعليم أبنائها وبناتها، فصارت توفر تعليماً موجهاً لذوي الاحتياجات الخاصة، بينما بقي العرب يقدمون تعليماً واحداً بنفس المقاس لكل الطلاب بغض النظر عن أوضاعهم واحتياجاتهم، وعندما التفتت الأنظمة في الوطن العربي لذوي الاحتياجات الخاصة بدأوا في فصل الحالات الأشد حاجة في مدارس خاصة أو في تجمعات تعزلهم عن الآخرين.   

في الحقيقة لم تلتفت الأنظمة التعليمية لتلك الاحتياجات وتحديات وإعاقات التعليم في حياة الطلاب، حتى بدأوا يدرسون الأنظمة الغربية والشرقية ويدركون أن توفير أربعة جدران مع سقفها لم يعد كافياً لتقول إن لديك مدرسة، وأن المدرسة اليوم أصبحت أكثر من مجرد بناء إسمنتي يحتوي الطلاب لساعات معينة، وأن الدروس لم تعد محصورة على القراءة والرياضيات والعلوم والوطنية؛ بل إن التكنولوجيا والفنون والهندسة والبرمجة أصبحت جزءًا أصيلاً منها.  

حتى أصبحت للمدرسة اليوم معايير، ومنهج ومدرس مؤهل يتلقى التدريب المستمر وتكنولوجيا تعليمية توصل المعلومة بطرق مختلفة، وتكون أداة متوفرة للطالب للبحث والإنشاء والإبداع، والمدرسة اليوم أيضاً لم تعد معلماً للرياضيات والعلوم والقراءة فقد أصبحت أيضاً مشرفاً اجتماعياً ومشرفاً نفسياً ومعلمين ومتخصصين يدرسون إعاقات وتحديات الطلاب الخاصة ويوفرون لهم البيئة التعليمية والبرنامج التعليم المناسب لمساعدتهم على اكتساب المعرفة والانتصار على تحدياتهم، سواء كانت بيولوجية أو ذهنية.   

المدرسة التي نحلم بها لأبنائنا وبناتنا لا يمكن أن تأتي إلا نتيجة اقتناع بأن التعليم هو الاستثمار الأمثل، وأن التعليم بكل جوانبه من بناء المدرسة إلى توفير المعلم، إلى توفير البيئة، إلى التعامل مع التحديات الشخصية للطلاب هو مسؤولية المجتمع والمدرسة.  

في الولايات المتحدة الأميركية كان قانون “لا طفل يبقى في الوراء” الذي صدر في 2001 في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بمثابة نقطة تحول في جعل المدرسة هي المسؤول الأول عن تعليم الطالب الأميركي. فرض القانون فلسفة جديدة لم تسمح للمدارس بإلقاء اللوم على الوضع الاجتماعي والأسري أو حتى التحديات الخاصة للطالب، فقد تحول النقاش من نقاش لوم يضعه المسؤولون عن التعليم على الأسرة والمجتمع، إلى نقاش حول ما يمكن للمدرسة أن تفعله لهذا الطالب الذي يواجه تحديات أكاديمية، وربما إعاقات جسدية أو ذهنية، أو مشاكل نفسية، فقد أصبح نجاح المدرسة وتصنيفها معتمداً على قدرتها على مساعدة كل طالب على النجاح، واكتساب المعرفة التي سيحتاجها للنجاح جامعياً ومهنياً.  

في الوطن العربي نحتاج أيضاً إلى تبني فلسفة “لا طفل عربي يبقى بالوراء”، فبدون تلك الفلسفة وبدون ذلك الهدف ستظل مدارسنا مجرد صروح إسمنتية أقرب إلى السجون منها إلى بيئات تعليمية لكسب التجارب المعرفية والعلمية. 

  وبدون تلك الفلسفة سيبقى الاستثمار في التعليم وطريقة إدارته تقليدية في زمن أصبحت الطريقة التقليدية لإدارة التعليم لمواجهة تحديات المستقبل عاجزة وفاشلة.  

 وبدون تلك الفلسفة سيبقى المدرسون والمدرسات يقدمون دروساً روتينية تلقينية لا تفيد الغالبية من طلابهم، وبدون تلك الفلسفة سينجح بعض طلابنا وطالباتنا ويتميز البعض القليل لكن الناجحين والمتميزين لن يكونوا أبداً قادرين على النهوض بالمجتمع، وستبقى الغالبية من طلابنا بتعليم عقيم غير قادرين على أداء دورهم والنهوض باقتصادهم ومجتمعهم في عالم تنافسي يفرض على الجاهل والمتخلف أن يبقى بالوراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock