التقييم الأكاديمي بين الأمانة العلمية والمسؤولية الوطنية | بقلم: د. خالد الهيلم الزومان

يؤدي الأستاذ الجامعي دورًا محوريًا لا يقتصر على تقديم المقرر أو شرح محتواه، بل يمتد إلى بناء العقل النقدي، وتنمية مهارات التحليل، وتعزيز القدرة على التفكير المنطقي والبحثي لدى الطالب الجامعي، بما يؤهله ليكون عنصرًا فاعلًا في سوق العمل، وقادرًا على الإسهام في التنمية العلمية والاقتصادية للمجتمع.
وفي قلب هذه المنظومة الجامعية يأتي التقييم الأكاديمي بوصفه أحد أهم أدوات قياس جودة التعليم العالي. فالتقييم لا يُعدّ إجراءً شكليًا ولا رقمًا يُسجَّل في كشف الدرجات، بل هو مؤشر أداء يقيس مستوى تحصيل الطالب الجامعي، وفي الوقت ذاته يعكس جودة البرامج الأكاديمية، وفاعلية المقررات، وكفاءة الممارسات التعليمية داخل المؤسسة الجامعية.
فعندما يرفع الأستاذ الجامعي نتائج الطلاب، فإنه لا يقدّم أرقامًا مجردة، بل يزوّد الإدارة العليا ببيانات تعتمد عليها في رسم صورة واقعية عن مستوى الطلبة، وفي تقييم كفاءة البرامج الأكاديمية، واتخاذ قرارات تتعلق بالتطوير، والاعتماد، وتحسين الأداء المؤسسي. ومن هنا، تتحول نتائج التقييم إلى أداة تشخيصية أساسية في صناعة القرار الأكاديمي.
غير أن الخلل يظهر حين يفقد التقييم صدقه، ويُمنح الطالب درجة لا تعكس مستواه الحقيقي، بدافع المجاملة، أو التعاطف، أو الخضوع لضغوط اجتماعية، أو شخصية. فمثل هذا السلوك لا يمكن اعتباره تساهلًا أكاديميًا، بل هو إخلال بالأمانة العلمية وتضليل للمؤسسة، لأنه يحجب البيانات الحقيقية عن متخذي القرار، ويمنع كشف مواطن القصور، ويُنتج مخرجات تعليمية لا تتناسب مع متطلبات التعليم العالي ولا مع احتياجات سوق العمل.
ولا يقف أثر الإخلال بالتقييم الأكاديمي عند حدود القاعة الدراسية، بل يمتد إلى الفرد والمجتمع ومؤسسات التعليم ذاتها.
فعلى مستوى الطالب، يؤدي التقييم غير الواقعي إلى تكوين صورة مضللة للطالب عن قدراته، فيدخل مراحل متقدمة أوسوق العمل دون امتلاك المهارات الفعلية المطلوبة، ما يضعه في مواجهة إخفاقات مبكرة تهدد ثقته بنفسه ومساره المهني.
وعلى مستوى المجتمع، تُنتج هذه الممارسات مخرجات تعليمية ضعيفة، تسهم في الإخلال في كفاءة المخرجات لسوق العمل، وتزيد الفجوة بين الشهادات والكفاءة الحقيقية، وتُضعف التنافسية الوطنية في مجالات المعرفة والاقتصاد.
أما على مستوى مؤسسات التعليم العالي، فإن التقييم غير الصادق يضلل الإدارات الأكاديمية، ويشوّه مؤشرات الأداء والجودة، ويقود إلى قرارات تطوير غير دقيقة، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الاعتماد الأكاديمي وسمعة المؤسسة وثقة المجتمع بها.
إن الأمانة العلمية تفرض على الأستاذ الجامعي أن يكون التقييم عادلًا وموضوعيًا، يعكس الفروق الفردية بين الطلاب في قدراتهم على الفهم، والتحليل، والتفكير النقدي، والاستيعاب العلمي، دون زيادة أو نقصان. فالمجاملة في التقييم لا تخدم الطالب على المدى البعيد، ولا تحمي المؤسسة، بل تضر بمصداقية التعليم الجامعي كله الذي بلا شك سيتضرر منه المجتمع.
إن إعادة الاعتبار للتقييم الأكاديمي بوصفه مسؤولية وطنية تمثل خطوة جوهرية نحو ضمان جودة مخرجات التعليم العالي، وتعزيز الثقة بالمؤسسات الأكاديمية، وترسيخ ثقافة النزاهة العلمية التي تقوم عليها الجامعات الرصينة.




