كتاب أكاديميا

جامعة الكويت وبائعة أعواد الكبريت ..بقلم: د. فلاح محمد فهد الهاجري

ذكر الروائي هانس كريستيان أندرسن في إحدى رواياته أن البرد كان قارساً في آخر ليلةٍ من عام 1848م، وكانت هناك فتاة صغيرة قد خرجت من بيتها حاسرة الرأس حافية القدمين سوى خفّين كبيرين من قماشٍ لأمها ترتديهما وقد ضاعا جرّاء عبورها الشارع مسرعة أثناء مرور عربتين بسرعة فائقة، فاختفى الخفّ الأول وأُخِذَ الثاني من قبل صبيٍّ متشرد يدِّعي ادخاره ليكون مهادًا ذات يومٍ عندما ينجب أطفالًا.
مشت الفتاة الصغيرة ذات القدمين الحافيتين المتلونتين بلون مختلط من الحُمرة والزرقة من شدّة البرد حاملةً في مِئْزَرِها الذي ترتديه أعواد الكبريت لتبيعها وتحمل ثمن البيع لأبيها الذي سيضربها حال رجوعها خاوية اليدين، والثلج تتساقط نُدَفُه على شعرها الأشقر الطويل المسترسل الذي تَجَعَّدَ بشكلٍ جميلٍ حولَ رقبتِها، ولكنَّها لم تكن تُفَكِّر بزينتها أبدًا أمام هذا البرد الشديد.
في زاوية بين منزلين أحدهما متقدّم على الآخر والناس -حسب معتقدها- تحتفل بعيدها ورائحة الشواء ملأت الطرقات، لجأت هذه الفتاة إلى الزاوية وهي تشمّ الرائحة وهي تتضور من الجوع وتتقطع من البرد منكمشة ساحبة ساقيها الصغيرتين تحت جسدها، وهي تتمتم: إن عدت إلى البيت ضربني أبي، فأخذت عوداً ومسحته على الجدار بغية الدفء فاشتعل فتخّيلت مدفأة فمدّت ساقيها وقربت منها فانكفأ العود فعادت لرشدها بين زاوية المنزلين تسمع أصوات الضحك واصطدام الأشواك بالصحون.
أشعلت الفتاة عوداً آخرَ فتمثّل لها الجدار كمرآةٍ ترى من خلاله ألذ الأطعمة وأفخر الصحون الصينية، وإذ بالبطّ المشوي يقفز لها لتأكله، وما أن قرب منها حتى انطفأت الشعلة من جديد فلم ترَ أمامها سوى الجدار السميك القاسي.
قامت الفتاة فحكّتِ العودَ الثالثَ فتمثّل لها شجرة عيد الميلاد متلألئة بنجومها -كما هو في معتقدهم- فطارت بها فرحاً، فما كادت تلمسها حتى اختفت وطارت نجومها إلى السماء وسقطت إحداها مخلِّفة خلفها شريطًا ناريّاً في السماء، فقالت الفتاة: سيموت شخصٌ ما؛ لأن جدّتها التي توفيت -وهي الوحيدة التي كانت تعطف عليها- كانت تقول لها حسب معتقدها: “إذا سقطت نجمة تصعد روحٌ إلى الله”، ولم تكن تعلم أنّها هي المقصودة بذلك.
هنا تذكَّرتْ الفتاةُ جدَّتَها الحنونَةَ، فشحطت عودَ كبريتٍ على الحائط أيضاً فأضاء ما حولها وعبْرَ البريق الوهّاج وقفت جدتها العجوز واضحة حنونة طيّبة، فصرخت بأعلى صوتها هي تمدّ حرف الألف: “جدّتي، آهٍ آه، خذيني معك، أعلم أنّك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت، كما اختفت المدفأة والبطّة المشوية والشجرة المتلألئة، ثمّ أسرعت بشحط عيدان الكبريت خوفًا من أَلَمِ الفقدان؛ فقد كانت تودُّ بشدَّةٍ أن تُبْقي العيدانُ جدَّتَها، فأضاءت العيدان المكان حتى كأنه وضحُ النهار، وهنا حملت الجدّة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا إلى السماء بتألقٍ وفرحٍ حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، فقد ذهبا إلى اللطيف الرحيم.
وفي صباح السنة الجديدة عند الزاوية التي بين المنزلين وجد الناس تلك الفتاة وحولها أعواد الكبريت ميتة متجمّدة، يحزنون على ما صابَها، فالدلائل تدل على طلبها للدفء ولم يعلموا السعادة التي عاشتها وكم كان جميلًا ما رأته.
سؤالي هنا هل ستموت جامعة الكويت من شدّة البرد؟ هل كان شارع الحياة يسير بسرعة مخيفة بعربتيه الليل والنهار؟ هل القانون التي حلمت فيه جامعة الكويت لا يتفق مع طموحاتها بخفّيه الواسعَين؟ وهل سينجز مجلس إدارة جامعة عبد الله السالم وعده -عندما أخذ مباني جامعة الكويت- بأن ينجب لنا الكفاءات العلمية من هذا الصرح الجديد؟ وأين الخفّ الثاني ليتيمة الكويت فما زالت مبانيها ومستشفاها والمراكز الطبية في سباتٍ عميق؟ هل جامعة الكويت تخشى أن ترمي بهمومها ومشاكلها للشارع الكويتي خوفًا من ضَرْبِ المكانة العالية لهذا الصرح الكبير بعدم قدرته على حل أزماته والتي سببها شتاء المدراء المكلّفين، والبرد القارس من عدم الاستقرار بإدارة قادرة على بناء هذا الصرح الجديد بالأصالة؟
إن جامعة الكويت في زاويتها بين جامعات العالم لتحلم الأحلام الكبيرة؟ فقد وجدت الدفء في الاستقرار الأكاديمي فتمنّته، ووجدت في جامعات الدول الأخرى الكادر المالي الذي يليق بالأستاذ الجامعي من هيئة أكاديمية وهيئة أكاديمية مساندة فاشتعل قلبها حرقًا، وهذا تجده في الكتيّب المعدّ من قبل جمعية أعضاء هيئة التدريس، والذي سعينا من أجله وتم اعتماده، وأما الشجرة فهي المكانة الاجتماعية التي نحظى بها والتي لا تستقيم مع عدم الاستقرار الأكاديمي والكادر المالي المحترم، وأما اللهب المتتابع من النجوم المتساقطة فهو نفور علماء الكويت من هذه المؤسسة العظيمة بسبب ما سبق، حتى رمقت جامعة الكويت بعينيها إلى الكفاءات الوطنية المخلصة تستجديها لإدارتها بالأصالة وانتشالها مما هي فيه من المكلفين بإدارتها مدداً قصيرةً فأشعلت جميع أعوادها لاسترعائهم لها.
إننا في جامعة الكويت لترنو أعيننا للقيادة السياسية الرشيدة لتنتشل الجامعة مما هي فيه، وترجوها أن تنظر لمطالب الأساتذة، والتي على رأسها الكادر المالي الذي حقّقناه في السنوات الماضية.
ما يزال الأمل معقوداً، بل هو دومًا معقود بعد الله عز وجل في قيادتنا الرشيدة.

بقلم: د. فلاح محمد فهد الهاجري
أستاذ السياسة الشرعية بجامعة الكويت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock