قسم السلايدشوكتاب أكاديميا

الفرق بين البناء و العمارة| بقلم:
المعمارية سارة خالد ملك

يتناول المقال الراهن وبصورة موجزة طائفة من التوجهات المعاصرة في التعامل مع العمارة في ضوء الآفاق والتحديات الراهنة مع التركيز على مضامين كلمة ‘العمارة’ في اللغة العربية. إن اللغة العربية عميقة وواسعة بمعانيها ولهذا اختارها الله سبحانه وتعالى لغة للقرآن الكريم مما رسخ أركانها، وأشاد بنيانها، وكتب لها الخلود والنماء والتألق. وفي هذا السياق الممتد نجد أن كلمة عمارة من الكلمات العميقة بمعانيها ورسائلها وإيحاءاتها ودلالاتها.
تشير كلمة ‘العمارة’ اليوم إلى تخصص مهني يسعى إلى أن يربط بين الفنون والعلوم لتصميم المساحات وتشييد المباني التي يحتاجها الإنسان في ضوء قواعد علمية معينة من جهة، ووفقا لميول الفرد وتطلعاته وإمكاناته ومستجدات حياته من جهة أخرى. وفي هذا الإطار فإن كلمة (Architecture) كلمة لاتينية الأصل وهي كلمة شائعة عالميًا لوصف هذه المهنة التي تشهد حقولها تطورات عديدة ومتسارعة. وتتفرع هذه الكلمة لتصف أنواع مختلفة من المباني من جهة كما تشير إلى المدن في حِقْبات تاريخية متنوعة من جهة أخرى. وفي هذا المجال الأكاديمي الخصب تتعد التوجهات الفلسفية والثقافية للتصميم وإبراز طراز البناء، وغدت أعمال العمارة تشهد تنوعا في عدد مشاريع المفكرين والمبدعين مما استحوذ على اهتمام الإعلام العالمي.
وقد وصلنا اليوم، مع تفاقم الآثار السلبية لتطور الصناعة والمواصلات وتكنولوجية البناء على البيئة إلى ما يسمى بالعمارة المستدامة (Sustainable Architecture) التي تهتم بالاستمرارية والاعتماد الذاتي للبناء من ناحية بيئية و اقتصادية و اجتماعية. وفي هذا المقام ظهرت أيضا مصطلحات تخصصية من مثل (Green Architecture) لتدعم فكرة العمارة الخضراء الصديقة للبيئة واشتراطاتها الصحية. وهذا النوع من المجالات يركز على مفهوم الاهتمام بالبيئة من جانب، وعدم الإضرار بها من جانب آخر. بالإضافة إلى ذلك، نرى مؤخرا أننا نتوجه إلى (Resilient Architecture) أي العمارة المقاومة والتي هي مستدامة وفي نفس الوقت تتفاعل وتتناغم مع المتغيرات البيئة من حولها بحيث تقاوم الكوارث المفاجئة و الأزمات. مستدامة كانت أو خضراء أو مقاومة، ما هذه إلا صفات إن تمعنا في التفكير في أبعادها ومرتكزاتها، سنرى أنها في صلب معنى كلمة ‘عمارة’ نفسها.
كلمة عمارة مشتقة من كلمة عَمَرَ. كلمة يندرج تحتها العُمر والعَمار. هذه كلمات توحي بالحياة الطويلة والاستمرارية. عمارة هي كلمة وصف بها الله تعالى دور الإنسان باعتباره “خليفة” في الأرض. ومن هنا فإن عمارة الأرض ليست مقتصرة على ممتهني العمارة الذين يصممون المباني والمدن. كلمة عمارة ولأنها واسعة الأفق تدعونا إلى الحفاظ على أرضنا واستمراريتها مهما كانت مهنتنا وتدعو من اختاروا العمارة كمهنة إلى الحفاظ على الحياة الطيبة الكريمة في هذه الأرض لتعمر وتستمر وتزدهر.
ما نراه اليوم من تطور وتوسع البناء واضح، لكن هل نسميه عمران؟ يعاني الإنسان من ازدياد سلوكيات متهورة؛ صرف الكهرباء، هدر المياه، حرق البترول، الاعتماد على البلاستيك والمواد الغير قابلة للتكرير، رمي النفايات، إهمال الحيوانات، إفناء الغابات، وتلويث البحار، إهمال الطبيعة. إن الأرض تشتكي، الأرض تبكي، الأرض تقاوم. تقوم كثير من الشركات التجارية عابرة القارات بترويج سلعها الاستهلاكية على نحو ضار بمكونات البيئة. نحن نرى اليوم إن تعمير الأرض على نحو رشيد ودائم ومتوازن من أولويات استعادة الحياة للأرض وضمان تدفق خيراتها. إن غرور وجشع وأنانية الإنسان لوث البيئة في أنحاء العالم، وأزال زينتها، وجرح جمالياتها حتى اختل نظامها الطبيعي المتوازن. هذا كله محزن ويدعونا جميعا للتساؤل هل كنا نبني أم نعمر؟ هل هي تعمير للحجر أم بناء البشر بحيث تصبح الحداثة والتحديث في بوتقة متناسقة؟ هل نهتم بالمادة بعيدا عن قيم الاقتصاد والترشيد؟
يتطلع تخصص العمارة بتوجهاته المعاصرة نحو بسط مفهوم الاستدامة والتنمية وقد نبهنا إلى عمق معنى كلمة عمارة ونبهنا إلى أن نراجع أنفسنا لا سيما في عالمنا العربي والإسلامي لما لدينا من كنوز دينية ولغوية فيها أسرار لعمارة الأرض والمحافظة على الحياة فيها من أجل حماية ورعاية البيئة على نحو دائم يخدم الإنسانية كلها عبر العصور. يقول الله عز وجل: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” ﴿١٩٠ آل عمران﴾
ماذا تعطينا هذه الآية من رسائل وتوجيهات؟ التأمل والتفكر والبحث والاستكشاف والتعلم لمعرفة عظمة الخالق. هذه هي الإجابة البديهية لتفسير الآية الكريمة. هل نقف هنا؟ وإذا انتقلنا إلى الاتجاهات المعاصرة لدى المعماريين و المصممين نعثر على مصطلحين: بيوفيليا (Biophilia) و بيوميميكري (Biomimicry) وهي بإيجاز شديد أساليب تفكير وتصميم من وحي الطبيعة. يعرف عالم الأحياد ادوارد ويلسون البيوفيليا بالميول و التعلق بالطبيعة بماهيتها وألوانها وأصواتها وروائحها. فيقوم المعماري باستخدام الطبيعة نفسها أو الااستلهام منها في تصاميمه، وبذلك يحقق الراحة النفسية وسرعة التعلم للطالب في المدرسة وسرعة العلاج للمريض في المستشفى. أما البيوميمكري فيأخذ منظور التأمل في الطبيعة إلى مستوى عميق جدا. إن جانين بانيوس، عالمة أحياء معاصرة، تدعو البيوميمكيين، سواء معماريين أو مهندسين أو مدراء الأعمال، إلى أن ينظروا إلى الطبيعة بغرض التعلم منها والإفادة من تصاميمها واستكشاف منافعها. في الطبيعة من حولنا نرى عمليات كيميائية وفيزيائية وإدارية معقدة ومتداخلة ومترابطة تضمن استمرارية الحياة على هذه الأرض بكل مكوناتها. لقد خلق الله الأرض في أحسن صورة لنتعلم منها كيف نصمم ونبني ونعمر ونتكيف مع المكونات الطبيعية المحيطة بنا. لقد كان في قبضة أيدينا مفتاح البيوفيليا و البيوميممكري لكن احتجنا من ويلسون و بانيوس أن يدلونا على الباب وأن يعلمونا كيف نتناغم معماريا مع الطبيعة الفاتنة المتناهية في الجمال والدقة، ولكي نتعلم كيف نتفكر بخلق الله لنعمر الأرض ولا ندمرها.
إن القادم أجمل إذا حرصنا على صيانة الطبيعة وتطوير مجالات ديمومتها وإيقاف نزيف التلوث البيئي بكافة أشكاله ودرجاته ومستوياته. استعمر اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه في الأرض وجعلكم عُمَّارا لها ماديا ومعنويا ويعمروها بمكارم الأخلاق، ويمشون في مناكبها ويتنعمون بخيراتها بتواضع ودون إسراف، ومن شروط السكن تعمير الأرض والحذر من تدميرها. قال جل ثناؤه {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]

بقلم:

ساره خالد ملك

займ на карту быстро

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock