كتاب أكاديميا

أ.دلال فراج المطيري تكتب: التناص مع التراث في عتبة العنونة

( قراءة في شعر أحمد عواضي )

 

العنوان هو أول مثير سيميائي في النص  حيث إنه يتمركز في أعلاه و يبث خيوطه و إشعاعاته فيه ،وقد لايفهم النص إلا من خلال ربطه بعنوانه حتى يكون منطلقا لتفسيره أو التفسير به فالعلاقة بين النص و المتن علاقة تكاملية تفاعلية .

وللعنوان ظائف عديدة من أهمها :1) الوظيفة التعيينية :أ)تجنيسية وهي التي تحيل إلى النص في جانبه النوعي أو التجنيسي كالعنوان الذي اختاره العواضي لمجموعته الثالثة :”قصائد قصيرة “.

ب)موضوعاتية :التي تشير إلى محتوى النص أو لها علاقة بموضوعه مثل “مواقيت لأحزان سبأ”

2) الوظيفة الإغرائية :تعمل على لفت انتباه المتلقي وشده إلى المتن بما يقدمه من اختزال لمضامينه و تكثيف لها .

ثم يتناول العنوانين (الخارجية و يقصد بها عنوانين المجموعات و العنوانين الداخلية و هي عناوين القصائد) و تناصها مع التراث، فمثال العنوانين الخارجية عنوان “إني بي رغبة للبكاء ”

إن أهمية هذا العنوان تتأتى من انفتاحه على التراث و تشظي دواله في المتن الشعري ،وانبنائه على محوريه الأساسين “الرغبة و البكاء”،ويمكن أن نسجل أول ظهور لهذين المحورين في عنوان قصيدة “إن بي رغبة للبكاء”فهو عنوان يقوم بوظيفة اجرائية مزدوجة ،من حيث إنه عنوان داخلي و خارجي معا مما يمنحه أهمية مركزة ،وسلطة رمزية مكثفة في المتن و تجعل منه نواة تتناسل بموجبها المعاني و الدلالات فيقول في المقطع الرابع :

الصباح المبكر مختبىء في القفار يخاف القبائل تلك التي لا تحركها غير بوصلة الثأر و الغزوات البليدة ،في وطن توام هو و الروح لا يعرف الآن كم أخرتنا “قفا نبك ” معلنة لا سفر .

فقفا نبك توازي أن بي رغبة للبكاء ،تستدعى في الأولى ملكا مشردا ،و ملكا مضاعا ،و اغترابا طويلا ،و تستدعي في الثانية وطنا مشردا و زمنا حزينا /كما إنهما يستدعيان نصا تراثيا شعريا هو معلقة امرء القيس بكل سياقاتها . مما يجعل هذه الجملة هي النواة التي انسل منها العنوان ،وعمل على تحويلها ،و تحويرها .والبكاء على الأطلال في الجاهلية ظاهرة نفسية اجتماعية تمثل الانهيار الحضاري و قحل الطبيعة و الموت ،اما الحافز عند العواضي هو تلك القبائل التي لا تحركها غير بوصلة الثأر فهو يدعو للخروج من نظام القبيلة إلى مجتمع أكثر حضارة ووعيا .

وإذا كانت العنوانين الخارجية تحدد و تؤطر العمل ككل ،فإن العناونين الداخلية تلغي سطوتها و تحاول استبعادها جزئيا ليتم الانفتاح على عوالم أكثر خصوصية ، و مثالها قصيدة “مواقيت لأحزان سبأ” فالوظيفة التناصية هنا اكثر وضوحًا إذ يحيل إلى حادثة سبأ التاريخية بكل أبعادها الدراماتيكية التي وقعت في الزمن البعيد .فصفة الحزن هنا لصيقة بسبأ ،وسبأ لصيق بالمجتمع المحيط بالشاعر ،أي إنه يختزل هما إنسانيا محليا ،يتجسد في المجتمع اليمني الذي يعيش فيه الشاعر ،والذي وقعت الحادثة في ماضيه البعيد وتكررت نفسها بشكل او بآخر فالعنوان يقدم للقارىء صورة أولية عن المتن و يشحذ ذهنه و يهيئه لاستقبال تفاصيل الحادثة شعريا و أبعادها المأساوية و لأن العنوان يركز على صفة الحزن بوصفها القيمة الوحيدة المتبقية من حضارة سبأ ،فالنص يكثف الاشارات الدالة عليها و المحلية إ‘ليها ،وإلى سيل العرم الذي فكك هذه الحضارة ،وجعل أهله يبحثون عن مقام آخر ،فنرى صفة التحطم ودلالات الماء ،و المأساة ،و المواجع ،تتشظى في ملفوظات النص كما في :

ترى امتداد الأرض مرآة محطمة /كيف بكت بلاد باعدت أسفارها /ربما تتبدل الآيات أو نبكي و نجمع ما تبقى من حطام الشمس و الأحجار و السدر القليل لكي نسميها بلادا .

فالرمز سبأ يستبطن دلالتين مزدوجتين ،أولاهما العظمة و القوة ،التي كانت تتمتع بها مملكة سبأ قبل العرم ،و الأخرى الاغتراب و الموت و التي حدثت بعد العرم ،و النص يعضد رؤية العنوان في تبئيره على صفة الحزن و على الماضي الحزين و يلح على ترديد ملفوظ السيل غير مكتفق بترديده مجردا من النعوت بل ينعته بالعرم العجوز رغبة منه في التأكيد على الحدث قد مضى عليه زمن طويل و ينبغي نسيانه و بناء وطن آخر غير ذلك المهدم ,وتجاوز المأساة على ما هو أفضل منها .

فالعنوان يشغل حيزا كبيرا في الدرس السيميائي و هوالعتبة  التي يقف عليها المتلقي لسبر أغوار النص و استكشاف مسار التأويل وجماليته.

 

أ.دلال فراج المطيري  

المعهد العالي للخدمات الإدارية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock