كتاب أكاديميا

بيان محمد تكتب: قصة ميقات

عِندما بدأت خيوط الشمس الذّهبية تتسلل بِبطئ لتنشر أشِعتَها داخلَ الغُرفة الصغيرة، غُرفة مُتواضِعة تتناسب مع فتاة ريفية في التاسِعةَ عشرة من العُمر، مكتب خَشبي بُني اللون قاتم، أوراق مُبعثرة غطت كامل سطح المكتب وريشة صغيرة وعُلب من الحِبر الأسود السائِل، بالإضافة إلى مجموعة جُمل وكلِمات عربية فُصحى رُسِمت بدقة وإتقان على الأوراق البيضاء فقط لِتستحيلَ عملاً إبداعياً مُصوراً يستحِقُ التبجيل، لولا تِلكَ الفوضى العارِمة. 

إلى جانب المكتب هناكَ دولاب صغير من نفس لون المكتب فُرجَ باباهُ فقط لِتظهرَ من خلالهِ الملابس القُطنية والفساتين المُزركشة مُختلفة الألوان والأشكال، كُلها من طِرازِ واحد يتناسبُ مع أجواء القرية وعاداتِها الريفية القديرة المُتعارف عليها مُنذ الأزل. 

وأخيراً وليسَ آخِراً ذلكَ السّرير المِسكين الذي يتحمّل بصمت رَكلاتها القوية وحركِتها الكثيفة أثناءَ نومِها وكأنّها تُصارِع باستِماتة داخِلَ مَعركة ما. 

أخيراً تهادى إلى مسامِعها صوت عمّتِها تُناديها بامتعاض لعلّها تسمَعُ وتستفيقُ، خيرٌ من أن تُضطرّ هي إلى تسلّق السّلالم الخشبيّة المتصدّعة التي قد لا تَستطيعُ حَملَها معَ كل هذا الوَزن الزائد والدُهون المُتراكِمة. “نعم عمّتي، قاااادمة على الفور” 

رفعَت عنها غِطاءَها وأسرعت مُهرولةً تطوي السّلالِمَ تحت قدميها إلى أن صارت أمامَ عمّتها التي تشتعِلُ غيظاً، ليسَ هُناكَ شيءٌ جديد على مِيقات فقد إعتادت على مِزاج عمّتها المُتقلب والغاضب في مُعظم الأحيان. 

أمرَتها بتغيير هِندامِها والخروج مُسرِعةً إلى الحديقة الأمامية حتى تُسلّم وتستَلم طلبيات أهل القرية من الحليب واللبن المُخثر والأجبان المُختلِفة والمُتنوعة، ريثَما تقوم هي بتجهيز الحليب المُستخرج حديثاً حتى تُحوّلَه إلى كل تِلكَ الأطعمة اللذيذة والمُتعددة.

خرجت ميقات تُنفذُ أوامِر عمّتها الوحيدة التي تبقت لَها مِن عائلَتها دونَ إحتِجاج أو تخاذُل في عمَلها.. ولكنّها ليست راضية البتّة ، هذهِ الحياة التي تَعيشُها لا تتناسب مع أفكارِها وطبيعَتِها الفريدة والمُتميزة ، لا تتناسبُ أبداً مع سقفِ أحلامِها العالي وطموحاتِها الوردية،هي لطالما أرادت أن تذهبَ لتعيشَ وسَط المدينة، هناكَ حيثُ يتسنّى لها إفتتاح محلّها الخاص بالخطّ العربي، بغيَةَ أن يكونَ لها إسمُها البارِز والمُتألِق في مجالِها،

تريدُ أن تُبدع،تُريدُ أن ترتادَ المعاهِد والدورات التعليميّة حتى تُنمّي مهاراتِها المُتعددة وتستطيعَ تعويضَ نفسها عن أوقاتِها الضائِعة هَدراً بدون تعليم.

لكنّ عمّتها رفضَت قطعاً الذهاب للعيشِ وسطَ المدينة ، وقالت إن تِلكَ الأجواء الصاخِبة والمُكتظّة بالأعداد الهائِلة من البشر لا تُناسبُها.. هي التي قضت سابِقَ عهدِها في الحياة بينَ الغابات والبساتين المُخضرّة التي تتنافَسُ في جَمالِها وطبيعَتها الخلّابة، بين زقزقَةِ العصافير وتغريدِ الطيور وحيواناتِها الأثيرة من الغَنم والماعِز والأبقار وبعض الدجاج، والقليل القليل من البشر الذينَ قضت معَهم كامِلَ أيّامِها من السرّاء والضرّاء حتى أصبحوا جميعاً مِثلَ عائِلة واحِدة مقرّبة لِبعضِها.

أنهَت عمَلَها وحمَلت نفسَها إلى الداخل حتى تتناوَل فَطورَها.. عندما كانت ستلتفُّ لتدخُل سمعت صوتاً مألوفاً يُناديها بصرخَات مُتلهِفة، 

“ميقاااات، ميقات انظري ماذا وجدتُ لكِ اليومَ في البَريد” التقطت الرّسالة بِلمحِ البصر من صديقَتِها غُفران ابنةَ سَاعي البريد في القرية وأخذت تفتُحها دونما صبر أو تأني فقط لتُمزّقَ غِلافَها البُنيّ ثُمَّ تقرأ.. ” بعدَ البسملة والسّلام.. نودّ إعلامكِ صديقَتنا ميقات المُتألّقة بأنّكِ قُبلتِ في تصفيات المسابقة الدُولية المُقامة سَنويّاً لرسّاميِّ الخطّ العربي على مُستوى شرق مدينة (….) في المركز الثاني، راجينَ لكِ دوام التقدّم والنجاح، ونودُّ إعلامَكِ أيضاً بأنّ عُنوانَكِ ورقم الهاتف سيكونُ مدوّناً في الجرائِد والصُحف المحليّة طيلةَ الأسابيع القادِمة..دُمتِ بخير ” أغلقت الرّسالة وأخذت تقفِزُ وتصرُخ بأعلى صوت ، هل حقاً ما سمِعت؟! أم أنها داخلَ حُلمٍ من أحلامِها الليلية ،لم تكن قد استوعَبت ما حدث للتوّ .. 

ولم تكُن صديقَتُها غُفران أكثرَ مِنها تعقُّلاً إذ أخذت هي الأخرى بيديّ صديقَتها وجعَلنَ يقفِزنَ سويّاً ويُلقينَ الضَحِكات الهِستيريّة والمتقطّعة كالمجانين.. عِندما فرَغت من إحتفالِها ذاك ودعت غُفران وصعدت لِغُرفَتِها. بعدَ أن حلَّ الظلام وتوقفَ الضجيج سكنَت قليلاً وأخذت تُفكّر.. 

ها قد لاحَ لها نورٌ مِن بعيد، ربّما يكونُ فجرٌ لأيّامِها المُنتظرة، ربّما هي بداية الطريق المؤدية لأمجادِها المَنشودة… وربّما مُجرد خيبة تُسطّرُها على رفوفِ ذاكِرتِها مثلَ سائِر الفُرص الخالية.. 

هل حقاً سُتعيشُ يوماً كما ترغب؟! 

تنهدت بِرجاء.. وبدأت بتوضيب فوضى الليلة الماضية من على مكتبِها.. 

عِندَ المساء نزلت لتناول العشاء المُعدّ من قِبل العمّة سُعاد، جلست على الطاولة وكانت عمّتها قد وضعت أمامَها صحنَ الشوربة وقطع من الخبز المحمّص وبعض الخُضراوات المسلوقة، بدأت المأدُبة حيثُ لا يُسمعُ في المكانِ إلا صوت إصطدام الملاعِق بالصحون.. الإنارة البُرتقالية الخافِتة المنبعِثة من المصابيح الزُجاجية أضافت نوعاً آخر من الهدوء القاتل، 

فقط بالنسبة لِميقات كونَها سَئِمت من ضَجيجِ أفكارِها حتى قررت أن تتحدثَ أخيراً.. “عمّتي..” قالتها بصوتِها الهادئ والمرتعش في الوقتِ ذاتِه فقط لتُهمهِمَ الأُخرى، لم تكن ميقات قد أخبرت سُعاد بِشأن المسابقة، لم تجرؤ على مفاتَحتِها في الموضوع أسَاساً، لقد سَمعت بأمرِ المُسابقة عن طريقِ العم خالد والد غُفران بما أنه يذهب إلى المدينة بينَ الحين والآخر لبعضِ شؤونه، وقررت إعطاءَه لوحَتَها ليقدمِها للجهة المسؤولة عِوضاً عنها، والآن لقد فازت وأصبحَ من الوارد تَلقّيها لِعروض عمَل في وقتٍ قريب.. “عمّتي أودّ إخبارَكِ بأنني… أ.. أ..” ترددت الُحروفُ في جوفِها وتلعثمَت شفتَاها.. ثمّ فكرت، لماذا عليها أن تُخبرَ عمّتها أصلاً؟ هي لم تتلقى أية فُرص عمل وليست مُتأكِّدة من أنَّ ذلكَ سيحدث في المستقبل أيضاً.قررت أنّها لن تُخبَرها، ولِأنها كانت مُتوترة لم تكن جائِعة كِفاية، اعتذرت وصعدت إلى غُرفتِها حتى تكونَ وحدَها ، تِلكَ الغرفة الصغيرة المتواضعة كانت فَضاءَها المُريح، عالُمها الخاص الذي تستطيعُ أن تكونَ فيه على طَبيعتِها، أن تكونَ مِيقات ذاتَها، تِلكَ الفتاة التي يراها الجميع ويعتقدونَ أنهم يَعرِفونها.. لا أحدَ يعرفُها، إنّكَ كُلّما قضيتَ مَعَها وقتاً أطول ستكتشف كلّ مرّة أنّك تتعرّفُ عليها من جديد. في اليوم التالي عِندما كانت تتسكّعُ مع غُفران في شوارعِ القرية، يُلقينَ النّكات المُضحكة ويتمتعنَ بأنسامِ الربيعِ العليل، ظهرت من بين المروج حافلة، وصادفَ أنّهنّ كُنَّ على بعد أمتارٍ قليلة من منزلِ غُفران، ما أثارَ دهشَتهم أن هذه الحافلة توقفت فقط لينزِلَ مِنها رَجلٌ كبير، وبدأ يطرقُ بابَ منزلِهم..أسرعت غُفران إليهِ تَسألُه عن حاجتِه، فما لبِثَ أن أخرجَ من جيبِ بِنطالِه بِطاقة وأعطاها إياها، أخذت تقرَؤها بصوتٍ خافت.. ثمّ رفعَت نَظرَها إليهِ بتشوش”ماذا يعني هذا؟” فقال.. “أنا مؤسس معهد الغدّ للفنون، وهو عِبارة عن أكاديمية تَعليمية تهتم بالأطفال الموهوبين بمجالات مُختلِفة، تقومُ بتطوير مهاراتِهم وتُنمّي إبداعَهم، عن طريق معلّمين مَهرة ومدربين مُختصين.. أمم.. وأظنُّ أني رأيتُ عُنوانَ هذا المنزِل في الجَريدة صباح الأمس، وجِئتُ أستفسر عن فتاةٍ فازت في مُسابقة الخط، أريدُ أن أرى إذا كان من المُمكن أن تكونَ واحِدة مِن منسوبات المَعهد”

“نظرت الفتاتانِ لِبعضِهما في ذهول، ولأنّه كان من الصعبِ على مِيقات النّطق بأي حرف، تشجعت غُفران فقط لِتقول”مِيقات!.. هذه هي” وأشارت إلى ميقات، عندما كان الرّجُلُ سيَهُمّ بالكلام قاطَعَهُ خروج العم خالد، بدا متفاجأً مما يرى، وهكذا بعد مدة من دخولِهم إلى المنزل، لم تنتهي أسئلة العم خالد عن المعهد وطبيعة العمل فيه والمكان.. الخ، كانَ يتحدثُ بخوفِ الأبِ على ابنته..قاطعتهم مِيقات وقد بدا عليها الخوف والتردد، وبدأت الدموع تتحجّرُ في مُقلَتيها، هي التي حُرمت من تعليمها في سنِّ العاشِرة بسبب حادثةٍ أودت بحياةِ والديها، وكان على عمّتِها إحضارُها لتعيشَ معَها كونَها لا تتعايشُ مع جوّ المدينة..وهكذا قضت باقي أيّامها بدون تعليم، ولِأنها كانت تزورُ العم أحمد في كوخِه المنفرد على أطراف القرية لتُآنسَ وَحدَتهُ وتأخُذ له بعضَ الأطعمة المنزلية التي تُعدها مع عمّتِها، كانت تُعجبُ كثيراً بلوحاتِ الخط التي تراها تزدادُ مع كلِّ زيارة، تَنبهِرُ من تِلكَ الحروف المرسومة بتناسُقٍ مُثير وكأنّ سوادَها ينطِقُ بالإبداع. وهكذا بدأت تتدرّبُ على صنعِ تلكَ التُحف الفنيّة تحتَ توجيهه حتى أصبحت تتنفسُ الخطّ، كأنها تكتشِفُ في داخلِها أبعاداً جديدة للحياة. والآن هاقد جاءَتها الفُرصة لِتكونَ هي العم أحمد لِكثيرٍ من المواهب المدفونة. قالت بإصرار”أمهلني يومين مِن فضلك، وسأوافيكَ بالجواب”.. عادت إلى المنزل مُتخَمة بالأفكار التي أثقلت كاهِلَها، فما لبِثت أن خلَعت حِذائَها حتى لمعت أمامَها شرارات الغضب التي تنطلقُ من عينيّ سُعاد وهي تقِفُ لها في باب الدرج حاملةً بيدها ظرف صغير بنيّ اللون، لم يَكن يجدرُ بها أن تُفكّرَ كثيراً حتى تعرفَ أن عمّتها وجدت نتيجة المُسابقة، وأنّها الآن قد بدأت الحرب الحقيقية. “هل يُمكنكِ أن تشرحي لي باختصار ماذا يكونُ هذا؟! ” قالتها عمّتها وقد كادَ صُراخها يُفقِدها سَمعها حتى تحدثت بِذُعر”عمتي.. دعيني أوضح لكِ الأمور على رَويّة”وعلى عكسِ الذُعر الذي ظهرَ جليّاً على ملامِحها كانت تنبِضُ قوةً من الداخل، ولكنّها آثرت أن تبدو مِسكينة أمامَ سعاد على أن تبدو عصيّةً ومتمردة لأنها تعرفُ جيداً ماذا بوِسع سُعاد أن تفعَل حينها.

لم تستمع سُعاد لأيٍ من رجاءاتِ ميقات بأن تفتحَ لها باب الغرفة المقفل منذ ثلاثة أيام، بل ازداد إصرارها أكثر عندما سَمعت بأمر العمل في المعهد.

لم تستطع ميقات أن تفهمَ سلوك عمّتها العِدائي معَها على الدوام، لماذا تُعاملها بتلكَ القسوة والدونية! إنها حياتُها ومُستقبلُها الذي ينتهي..

ماذا ستفعل الآن، لابُدّ أن الرجل تخلى عنها وذهبَ ليختارَ بديلةً لها،

كانت هذه أول فُرصة حقيقية لها، وانتهت!

تجلسُ أمام نافذتِها تُحدّقُ في الغروب، ألوانُ الشفقِ الحمراء تُطلّ بهيبتِها على البراري الخضراء لتصنعَ مزيجاً ساحراً من ألوانِ الطبيعة الخلّابة،

تتأملُ السماء الواسِعة برجاء، تُريدُ من ربّ السّماء أن يفعلَ شيئاً لأجلِها.

سمعت باب الغُرفة يُفتح، ظهرت عمّتُها بطولِها الفارع وقوامِها المُهيب فقط لتضعَ صِينيّة الغداء وترحل،”عمتي… عمّتي أرجوكِ” قالتها ميقات بعد أن أمسَكت بيديّ عمّتها ومكثَت جاثيةً على رُكبتيها ترجوها بصوتِها المُختنق بالبكاء!

لم تُظهر سعاد أي ردة فعل تُذكر، بقيت صامتة تحدق في يدي ميقات وكأنها تسرحُ بعيداً في خيالها، تركتها ورحلت وأقفلت الباب مجدداً

عادت ميقات مكسورة الخاطر، ما هو الذنب الذي اقترفته حتى تعيشَ هذه الحياة؟!

نامت بين دموعها ولم تستيقظ إلا قبيل المساء، من الجيد أن سُعاد لم تقفل نافذة الغرفة أيضاً، فتستطيع من خلالها معرفة الوقت من اليوم!

نظرت إلى النافذة وقد لاحت من بعيد أجسام بيضاء صغيرة الحجم، تعجبت لهذا وذهبت لتلقي نظرة، وعندما فتحت النافذة وجدت فيها قطع من الحجارة صغيرة الحجم لُفت بأوراق بيضاء، لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من التفكير، فقد استنتجت أنها بالتأكيد صديقتُها غفران أرادت أن تحادثها فأرسلت إليها الرسائل عن طريق الحجارة.. 

فتحت الأوراق، وفقط عندما كانت تقرأ توقف نبضها من هول المفاجأة، لم تستطع أن تتحكم في نفسها فسقطت على السرير وبدأت تتمالك نفسها، شهيق زفير، شهيق زفير. 

لم تستطع ميقات أن تستوعب لاحقاً في منتصف الليل عندما كانت في سريرها كيف أنها وجدت فرصتها التي ظنت أنها قد ضاعت منها وذهبت لغيرها، مازال نبضها حتى الآن غير مستقر تماماً وهي تفكر في كيف سيكون الوقت في أول عهدها بالتدريس، في أن تكون ميقات الحقيقة التي لطالما توارت عن الأنظار واختبأت خلف انصياعها المُقرر لكل أوامر عمتها. 

عندما فكرَت مجدداً في الأمر، تأكدت أنه ربما كان ما حصل أفضل بكثير مما أرادته هي في البداية، فهي في النهاية لا تريد أن تتخلى عن عمتها.. ولا تريد أن تعيش بمفردها في المدينة أو حتى في هذه القرية، عمّتها آخر ما تبقى لها من عائلتها وهي لا تريد أن تفقدها. 

استيقظت في الغد على صرير باب غرفتها، فقط لترى سعاد واقفة في أول الغرفة تُحدق بها بنظرات غير مفهومة البتة.. وعندما حاولت ميقات استشفاف معناها تأكدت بأن العم خالد قد أتى وتحدث إلى سعاد، وربما تكون أخيراً قد اتخذت قراراً مُنصفاً بحقها.. 

نهضت ميقات ورتبت شعرها وملابسها ثم نزلت تتبعُ عمتها حتى وصلتا إلى منصف الصالة، جلست ميقات بمحاذاتها وقد لفت نظرها أنها لم تشتم رائحة الحليب أو أي من الأطعمة الأخرة التي كانت تملأ المكان عادةً في الصباح، فعرفت أن عمتها لم تقم اليوم بإعداد أي شيء من المؤن وربما لم تفعل هذا لعدة أيام سابقة أيضاً.. 

كانت ملامح سعاد لا تُفسر تقريباً، لهذا اكتفت ميقات بالنظر إلى قدميها وهي تنتظر. ” إذاً تريدين أن تكوني معلمة للخط؟!” قالتها سعاد بنبرة محايدة ودون أن يرف لها جفن. “نعم.. هذا ما أريد” أجابت ميقات في أقصى محاولة منها لكي لا يرتجف صوتُها.. “لكِ هذا.. ولكن هل فكرتِ فيّ أنا؟!”.. ” لمرة واحدة على الأقل هل خطرتُ في ذهنكِ؟!” كانت ردة فعل ميقات الأسمى على هذا الكلام هي الدموع التي تشكلت في مُقلتيها والرجفة على عنُقها.. فلم تستطع أن ترد لفترة طويلة.

“عمتي ماذا تقصدين؟.. أنا لا أنوي تركك مطلقاً، أنا لم أفكر في هذا ولا حتى لمرةٍ واحدة، أنا فقط أفعل ما يفعله كل إنسان.. أنا أحلُم، ولم أكن أنوي قطيعتك أو أذيتك، أنا فقط أردتُ أن أصنع مستقبلي وحياتي الخاصة، أردت أن أفعل ما أُحب وأعيش كما أُحب.. وإن كنت تقصدين أعمال التخثير وصناعة الأطعمة فحتى هي لا تُضايقني.. لذا أرجوك كوني متفهمة لي وساعديني كي أسير في هذا الطريق” ارتجفت أنفاسها وتلبدت ملامُحها وهي تنتظر كلام عمتها.. ولكن عمتها لم تنطق بأي حرف لمدة نصف ساعة، حتى ظنت ميقات بأن محاولة العم خالد ومدير المعهد قد ذهبت هباءً، وأنها ستعود لتُسجن في تلك الغرفة البعيدة عن كل شيء.. 

” حسناً.. ابدأي بحزم أغراضكِ.. سأجعلك تذهبين مع الحافلة غداً وتقيمين عند صديقة لي في المدينة.. أعرفها منذ وقتٍ طويلٍ.. إنها امرأة طيبة وتعيش وحيدة، فلتقيمي عندها حتى انتهاء مدة التدريب في المهد، وبعدها سننظر في أمركِ مجدداً..” 

“عمتي؟!.. ألن تذهبي معي؟” فقط عند تلك اللحظة التفتت سعاد إلى ميقات لأول مرة، وكانت ملامحها تشعُّ استنكاراً..” أنا لا أتركُ هذه القرية، إنها الهواء الذي أتنفسه وأعيش منه، اذهبي أنت واصنعي فرصتكِ، سأحرص على زيارتك من حينٍ لآخر وأخذ ما تحتاجينه من الأطعمة من هنا، لابد أن تتغذي جيداً، فأنا لا أرضى أن تعيشي على الأطعمة الفاسدة والغير مجدية في ذلك المكان..” 

“عمتي.!” صاحت ميقات من بين دموعها.. ولكن العمة سعاد أسرعت باتجاه المطبخ ولم تترك الفرصة لميقات أن تقول أو أن تفعل أي شيء.

هكذا كانت النهاية بينهما تقريباً.. على الأقل للفترة التي كانت تقيم فيها ميقات في المدينة.. كانت تُرسل الرسائل بانتظام لعمتها وتنتظر في كل يوم جمعة أن تأتي حافلة القرية وتنزل عمتها منها.. ولكن هذا لم يحدث، ولم تتلقى ميقات أي رسائل منها مطلقاً. كانت تُرسل الرسائل إلى غفران أيضاً وتتلقاها في المقابل، فتستطيع أن تعرف منها أن عمتها على قيد الحياة ومازالت بصحة جيدة أيضاً.. ربما كانت هذه العلاقة بتفاصيلها هي المُقدرة، وليس كما تمنت وحلُمت دائماً. 

كانت حياتها مستقرة إلى حدٍ كبير، وقد استطاعت من خلال المعهد أن تتعرف على الكثير من الأشياء وتقابل العديد من الناس والأطفال.. وقد آتاها هذا فرصة في أن تتعرّف على نفسها أخيراً، فهذا العالم في النهاية هو مرآة لنا لنرى فيها أنفسَنا، ونستشفّ من خلالها أسرارانا وخبايانا الدفينة. 

ميقات بدأت حياتها الخاصة بالفعل الآن، وهي سعيدة بهذا التغيير الذي نقلها من ذلك المكان الذي دُفنت فيه أحلامها، وليست آسِفة على شيء. 

النهاية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock