م. محمد بن خواش يكتب: لا تفتح مطعم
في عام 1907م كتب عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، مقاله الشهير بعنوان “الاستخدام رق القرن العشرين” والتي وصف فيها ثورية قراره، وذلك بعد أن استقال من وظيفته الحكومية، ليعمل بعد ذلك في الصحافة، فتنقل بالعمل من جريدة إلى أخرى، إلاّ أنّ العمل الصحفي لم يوفر للعقاد دخلاً مادياً كافياً لسد احتياجاته المعيشية، مما اضطره إلى العودة للوظيفة الحكوميّة التي لاطالما كرهها.
مع الأسف إن ماحدث للعقاد إن هو إلاّ إثبات بأنه ليس بمقدور الإنسان في وقتنا الحالي أن يتحرر من قيد وظيفته بسهولة، فإن تركها سيضطر إلى الخوض في غِمار الحَيَاة فإما النجاح أم العَوَز. (العَوَز) هذه الفكرة المرعبة هي التي تجعل الإنسان منكسراً وغير قادر على تحقيق ذاته أمام وظيفته.
قال الشاعر السوري (عمر أبو ريشة)
عِفتُ الوظائف حتى لا أُلِمَّ بها
وقد رَددتُ إليها كُلّ ميثاقي
،
،
لأنها جشّمتني كُلّ نائبةٍ
وأنها كلفتني غير أخلاقي
في العديد من محاضرات المفكر الأمريكي الشهير (ناعوم تشومسكي) يؤكّد بأن الفروقات بين عبودية الرقيق وعبودية الموظفين بسيطة جداً، فيقول في أحد لقاءاته: “قديما كان الرقيق يُباعون ويُشترون، أما الآن فإن البشر يُؤجرون، ولا يوجد فرق كبير بين أن تبيع نفسك وأن تؤجر نفسك. ويقول الفيلسوف الألماني (فريدريش نيتشه):(وكما كان الوضع دائماً، ينقسم الناس إلى مجموعتين: عبيد وأحرار. ومن لا يملك ثلثي يومه لنفسه فهو عبد، أياً ما كانت وظيفته: رجل دولة، رجل أعمال، موظف، أو عالم). كما يقول أيضاً أستاذ الأنثروبولوجي (علم الإنسان) في مدرسة لندن الاقتصادية “ديفيد جريبر”: (أن أول الوظائف العمالية التي ظهرت عقب الثورة الصناعية نشأت في البداية داخل مزارع العبيد، ويقول: “عوضاً عن أن الناس كانوا يشتروننا ويؤجروننا، أصبحنا نؤجر أنفسنا بأنفسنا).
صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء.
وعن رافع بن خديج، قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور.
فلهذه النصوص وغيرها ذهب بعض علماء الدين إلى أن التجارة أفضل المكاسب، وخالفهم في هذا آخرون.
سابقاً إذا رفض العبد العمل لدى سيده فإنه يتعرض إلى التعذيب الجسدي أو التجويع حتى يرضخ، أما في وقتنا الحالي، فإن الموظف إذا رفض العمل فإنه يَستقيل من الوظيفة أو يُقال، وغالباً سيحدث معه ماحدث للعقاد، لكن هنالك فارقاً مهماً بين الرق والوظيفة، ألا وهي قدرة الموظف على ترك وظيفته أو الانتقال إلى وظيفةٍ أخرى، وهو ما لا يستطيع فعله العبد، مما يجعل باب الأمل مفتوح.
مما سبق هنالك خياران أمامك أيها الإنسان، الأول هو التنقل من وظيفةٍ إلى أخرى حتى تجد ما يوافق ميولك ويمنحك شعور أنك سيد نفسك ولك حرية الإبداع، وبناءً على أدائك تحظى بالترقيات، وهنا من وجهة نظري لن تكون الوظيفة عبودية. وإلاّ فالخيار الثاني وهو المخاطرة بكل شيء ورفع شعار التحدي وتستقيل فتنال شرف المحاولة كما فعل العقاد ولكن بتأني أكثر وبخطة مدروسة لعل الله بعد ذلك أن يوفقك.
صديقي الموظف الحالم بالتخلص من قيود الوظيفة، سأعطيك رؤوس أقلام لبعض النصائح البسيطة التي كنت أحتفظ بها لنفسي في حال واتتني الظروف وقُدر لي أن أعلن ثورتي على وظيفتي، فهذه هي وتبحّر أنت بها بعد ذلك قبل الاستقالة:
- تخلص من كل الديون البنكية قبل أي شيء.
- ابدأ بادخار رأس مال يعينك على البدء بمشروعك.
- عليك أن تبتكر شيئاً جديداً وتكون قادراً على تنفيذه.
- لاتبدأ بمشروعك قبل تصميم استراتيجيتك وإتمام (نموذج العمل التجاري).
- تعمّق في السوق وادرسه جيدًا واعرف لما خسر من كان قبلك وتجنب أسباب خسارته.
- وازن بين مقدار الاستثمار والأرباح.
- اعرف قوانين ونظم البلد، لأن جهلك ببعض القوانين قد يتسبب بخسارتك.
- ضع خطط بديلة تنتقل لها في حال خسارتك.
وأمّا أنا فقد سِرتُ على خُطى العقاد ذات مرة فاستقلت ثم عدت للوظيفة، ومن ثم عدت للمحاولة مرةً أخرى في العمل الحر وفشلت ثم عدت مرة ثالثة ورابعة، وسأكرر المحاولة تل والمحاولة حتى يحدث الله بعد ذلك أمرا، لأنني مقتنع بأن الوظيفة أمان من الفقر حرمان من الغنى، ولكنني في الوقت الحالي سأتمسك بالخيار الأول وهو قيد الوظيفة إلى أن يفرجها الله.
دعوتي للإنسان بأن يتجه للعمل الحر لاتعني بأن كل الموظفين عبيد (محشومين) فكما أسلفت هنالك وظائف تحقق للإنسان ذاته، ولكن كلي قناعة بأن ما ينهض بالبلد وبالمجتمع والفرد على حدٍ سواء هو العمل الحر، ففيه تكون الإنتاجية الحقيقية ويكون الإبداع والعطاء، لذا سأظل أنادي بالتخلص من أسر الوظيفة.
صديقي الثائر على قيود الوظيفة خذ مني هذه النصيحة الأخيرة.. لاتفتح مطعم .
المهندس محمد بن خواش
Email: [email protected]
Twitter: @mrq8i11
Instagram: mr_q8i111