كتاب أكاديميا

د. حليمة ابراهيم الفيلكاوي تكتب: الأسرة والتوافق الأسري

 

 

 

تعتبر الأسرة هي البنيان الاجتماعي الأساسي في المجتمع، فعلى امتداد تاريخ البشر وباختلاف عقائدهم الدينية وألسنتهم وثقافتهم، كانت الأسرة هي القاسم المشترك بين كل البشر على اختلافهم، فالزواج وتكوين الأسر هو الإطار الذي شرعه الله سبحانه وتعالى ليستمر النوع البشري لتتم به خلافة الله في الأرض، وآدم وحواء زوجان منذ اللحظة الأولى والقرآن الكريم يؤكد ذلك في قوله تعالى: ”  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا “(1) النساء.

إن الزواج هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأسرة في أي مجتمع من المجتمعات، لأنه يمثل ضرورة بيولوجية واجتماعية في حياة الإنسان، ويختلف الزواج لدى الإنسان عنه لدى الكائنات الأخرى، فهو لدى الكائنات الحية بيولوجي بحت، ويطلق عليه في العادة توالف أو تزاوج، في حين أنه لدى الإنسان نظام اجتماعي يتأثر بالجانب الاجتماعي ، وأعراف وعادات وتقاليد، أكثر مما يتأثر بالجانب البيولوجي فقط، ولذلك يمكن الرجوع إلى اختلاف نظام الزواج من مجتمع إلى آخر في خصائصه، ودوافعه، والالتزامات المترتبة عليه، فالزواج موجود لدى جميع المجتمعات الإنسانية البدائية والمتحضرة .

فالزواج استجابة فطرية لنداء فطري في أصله هدفه بناء المجتمعات، واستمرار النوع والسلالة، وهو إرضاء وإشباع لنداء الغريزة لدى الطرفين (الذكر والأنثى),وهو العلاقة التي يقرها المجتمع والتي وضع لها الضوابط والمعايير الاجتماعية المنظمة. أما من الناحية النفسية والتكوينية فهو صلة شرعية تقوم على تحقيق الإشباع الجنسي وحفظ النوع في جو من السكينة والاستقرار, وهو سنة حميدة وعلاقة مهمة بين الزوجين تقوم على قيم دينية واجتماعية واقتصادية، وعامل أساسي ينظم بقاء النوع الإنساني، ويرجع ذلك إلى طبيعة الزواج كعملية تفاعلية ومستمرة بين زوجين هما في الأصل شخصين مختلفين عن بعضهما البعض، تنفيذاً لسنة الله فــي خلقه؛ ولكي تسكن أنفسهما وتنشأ أواصر المودة والرحمة بينهما وذلك تصديقاً لقول الله سبحانه وتعالى: ” وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (21)الروم.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج”(صحيح البخاري)،وقوله صلى الله عليه وسلم: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني “(صحيح البخاري).

يطلق مفهوم  الزواج على العلاقة بين الرجل والمرأة، كنظام اجتماعي قديم ورد في جميع الأديان قد فطر الله خلقه عليه وبه تستمر الحياة، وهو أرسخ الأنظمة الاجتماعية وأكثرها فائدة للإنسان، والزواج باتفاق علماء النفس الاجتماعي هو أكثر النظم إثراءً للروابط الإنسانية في المجتمع وبما يعود على الجميع من مزايا على كافة المستويات النفسية والاجتماعية والإنسانية. والزواج كان ولا يزال هو العلاقة الاجتماعية الضرورية للشباب والشابات والتي يباركها الله لأنها الأساس الشرعي السليم لتكوين الأسرة، إلا أن هذه العلاقة قد تواجه الكثير من المشكلات الزوجية والأسرية التي قد تعوق استمراره ومن أهم تلك المشكلات نقص المهارات الزوجية في حياة الأسرة وفي الحياة الزوجية فالذي ينقص الحياة الزوجية هو بعض مهارات الحياة الزوجية .

إن الزواج في إطار الشريعة الإسلامية السمحة يقوم على روابط مقدسة واجبة الاحترام والرعاية. ولقد كان لديننا الحنيف فضل السبق من حيث الحرص على سلامة الأسرة وحمايتها من التفكك والتصدع، وتوخي الدقة والأمانة في اختيار شريك الحياة، وجعل الإيمان والتمسك بالأخلاق والدين أبلغ المعايير في هذا الاختيار، كما حث على حسن العشرة بين الزوجين، وأوضح الحقوق الزوجية في خطوط واضحة المعالم، وجعل الطلاق أبغض الحلال إلى الله بعد أن تفشل كل سبل الإصلاح .

والحياة الزوجية السعيدة تؤدي– بلا شك – إلى إشباع الحاجات لدى الزوجين- ولعل تلك الحاجات هي التي تدفع كلا منهما إلى الارتباط بالآخر نتيجة قناعة من الطرفين بأن كلا منهما مكمل لصاحبه، وبذلك تتحقق حالة الرضا الذاتي التي تؤدي إلى نجاحات كبيرة في كثير من جوانب الحياة الزوجية ومن هنا تأتي في المقدمة أهمية التوافق الزواجي الذي هو موضوع هذا الكتاب كمدخل للتربية الأسرية السليمة.

لذلك يُفترض: أن كلاً من طرفي العلاقة الزواجية سوف يسعى ويعمل على السعادة الزوجية وعلى تحقيق زواج ناجح وتهيئة كل عوامل إنجاح هذه العلاقة الشرعية والإنسانية والاجتماعية. فالحياة الزوجية أصبحت تتطلب الكثير من الجهد العقلي والنفسي والبدني لمواجهة العديد من المشكلات والاضطرابات وعدم الاستقرار نفسياً واجتماعياً وذاتياً، أضف إلى ذلك تأمين المتطلبات يومياً، وهذا بدوره قد يُنسي الزوجين الانتباه لفطرية الزواج وجوانبه الإنسانية .

إذن يتفق الكثير منا على أن التوافق الزواجي يميل إلى التغير خلال دورة الحياة، فالزواج في مرحلته الأولى يتضمن الحماسة والرغبة في إيجاد مكان في المجتمع، ويعتمد على نوع من الجاذبية، ويكون هناك تسامح أكثر منه قبولاً وتكيفاً واعيين، بينما تتميز المراحل المتأخرة بالمواجهة والنقاش والتفاوض فيما يتعلق بالتحكم والسلطة والقوة, وعلى النقيض من ذلك، نجد أن عدم التوافق بين الزوجين و الشجار المستمر يعكس جو الأسرة العام ، فيصبغ سمات شخصية الأبناء بسمات معينة، ويؤثر على نمو شخصياتهم ,ففي طريق التوافق الزواجي تتعرض الأسرة لمشكلات كثيرة خلال سنوات العمر ، هذه المشكلات أحياناً تكون اقتصادية، اجتماعية، صحية، نفسية، تخص أحد الزوجين، أو أحد الأبناء مما يؤثر على الجو العام في الأسرة، وعلى علاقة الزوجين بعضهما ببعض، فإذا كانت هذه العلاقة متينة ومتوازنة ويسودها الرضا والتوافق والتماسك فإنها تتخطى هذه المشكلات والأزمات في زمن قياسي، أما إذا كانت العلاقة ضعيفة ويسودها الاضطراب وعدم التوازن ، فإنها تضع الأسرة بكاملها في مهب الرياح تعصف بها كيف تشاء .

لهذا نجد أن التوافق الزواجي ركيزة أساسية في نماء الأسرة واستمرارها ، إذ يؤدي هذا التوافق إلى استمرار حياة بقية أفراد الأسرة واستمرار حياة الأسرة خاصة الأبناء ، لأن غياب التوافق يؤدي إلى اضطرابات ومشكلات نفسية مختلفة لديهم مثل: مشكلات النوم عند الأطفال واكتساب السلوك العدواني وقضم الأظافر والتبول اللاإرادي، التأتأة كما يؤدي غياب التوافق إلى حالة من القلق والاكتئاب عند الزوجين وتفكك العلاقات الأسرية وانهيارها، مما يؤدي إلى عدم استقرار المجتمع على اعتبار أن المجتمع هو مجموع الأسر الموجودة فيـه، لذلك لابد أن يكون هذا التوافق موضع اهتمام ودراية من قبل الزوجين، سواء المقبلين منهم على الزواج أو المتزوجين الجدد، أو حتى من مر على زواجهم عشرات السنين.

 

 

 

 

 

 

 

 

د. حليمة ابراهيم الفيلكاوي

أستاذ مساعد – قسم علم النفس/ كلية التربية الأساسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock