كتاب أكاديميا

د. جهاد الناقولا يكتب: كيف كانت بعض الشعوب القديمة تنظر لموضوع التأخر في الزواج؟

 
  تنظر معظم الشعوب والمجتمعات القديمة للأفراد المتأخرين عن الزواج نظرة سلبية ، دونية، ونظرة عدم إحترام لكلا الجنسين من الذكور و الإناث لأن التأخر عن الزواج ،أو العزوف عنه خارج عن طبيعة وعادات و تقاليد المجتمعات التي اختلفت نظرتها بإختلاف الأمم و الشعوب،و بإختلاف الأزمنة والأمكنة ، لكنها تكاد تتفق على أن الإبتعاد عن الزواج مسموح به فقط في حالة التدين و العبادة. و هناك بعض العشائر التي تنظر للتأخر عن الزواج نظرة عدم ارتياح ، فهي تنظر للمتأخرين عن الزواج كأنهم لصوص معتبرة ً إياهم خارجين عن طبيعة البشر لأنهم غير متزوجين. ففي منطقة التيبت الغربية كانت أنظمتهم تفرض فرضاً على كل أسرة أن تخص فرداً من أفرادها الذكور للتبتل أي إبعاده عن الزواج لكي يكرس وقته في خدمة الرهبنة ، كذلك الأمر بالنسبة للفتيات كانت تفرض على بعضهن ظاهرة التبتل (انظر: عمر ،1994 ، 246-247 ). ويلاحظ هنا أن غاية التبتل هي ممارسة الطقوس الدينية القديمة، إذ كان يسود الإعتقاد بأن الجماع فيه دنس لابد من الإغتسال منه قبل دخول الأماكن المقدسة. فالعزوبة كانت مرتبطة بالمعتقدات الدينية. أما عند الصينيين القدماء فقد كان الزواج عندهم أمراً وواقعاً ضرورياً، فكانوا ينظرون للعازب نظرة سلبية لدرجة أنهم كانوا يزوجون أرواح الموتى من الأطفال الذكور والإناث إلى بعضها البعض،و إذا توفى الرجل البالغ دون أن يتزوج فذلك كارثة كبرى بالنسبة لهم (انظر: كارين صادر،1996 ،30- 31 ) . ويلاحظ أنهم كانوا يبالغون في تقدير أهمية الزواج (انظر:عادل العوا،1991 ،151 ).

مما سبق يتبين أن الغاية من الزواج كانت تتمثل في أن يترك الرجل خلفه ذرية حسب معتقداتهم، والرجل الذي لا يترك خلفه ذرية فإنه بذلك يكدر راحة الآباء و الأجداد في مستقرهم الأخير لأنهم لم يحصلوا من الخلف أو الأبناء على العبادات المقررة والواجبات المقدسة (انظر :كحالة،1982 ،28 ).فتقديم الصلوات و إقامة الشعائر الدينية على أرواح الموتى من الآباء و الأجداد غاية أساسية ومطلب لا غنى عنه عند الصينيين القدماء.و بالنسبة لنظرة اليونانيين لموضوع العزوبة و التأخر في الزواج فقد كانوا يعتبرونه من الأحداث الهامة لإيجاد أفراد باستمرار يدافعون عن الأمة ، وقد حارب الفيلسوف أفلاطون العزوبة و دعا أفراد المجتمع للزواج لكي يحفظوا استمراريتهم ،و بالنسبة للراهبات اللواتي يرغبن بخدمة المعابد كان يشترط أن تتوافر فيهن صفة البتولية ( انظر:عادل العوا،1991 ،155 ).

  فالزواج واجب على كل يوناني نحو نفسه ونحو الوطن ،فالعزوبة في بعض المقاطعات اليونانية كانت تعتبر جريمة تعرض العازب للمسؤولية و الجزاء أمام المحاكم المختصة بذلك ، ومن آراء أفلاطون أن الزواج واجب من أجل أن يترك كل مواطن من بعده من يخلفه في إقامة شعائر الدين ( انظر :عبد الواحد وافي،1987 ،12-13 )، وقد كان اليونانيون أيضاً يعتبرون العزاب كأنهم مجرمون يستحقون العقاب، فغالباً ما كان يؤتى بالعزاب إلى الهيكل فتأتي بعض النسوة و يشبعنهم ضرباً بالسياط. ومن القوانين النافذة في تلك الفترة التي سنها أفلاطون إجبار كل من لم يتزوج على دفع ضريبة سنوية و كذلك الأمر بالنسبة للنساء اللواتي لم يتزوجن (انظر:محمد فريد جنيدي ،1993 ،102-103 ). أما في بلاد الهند فكان ينظر للأعزب على أنه إنسان غير نافع، والطالب (البراهمي) كان ملزم بالحفاظ على عفته طيلة فترة دراسته،و الزواج يعد فرضاً واجباً على كل معتنق للديانة البراهمية ،فالبراهميون الهنود ينظرون للأعزب نظرة عنصر فاسد وضار وأنه مخلوق عجيب غير طبيعي و يؤمنون بأن من يموت دون أن يترك خلفه أولاداً فستتخبط روحه كمن يتخبطه الشيطان أو كمن وقع تحت عبء دين ثقيل لا يستطيع الوفاء به ( انظر:وافي،1987 ،11) . أيضاً كان الهنود البوذيون يفرضون العزوبة على الكهنة و رجال الدين لأن البوذية ترى أن اللذة الجسدية لا تتوافق مع الحكمة والقداسة ، وتشير الأساطير إلى أن أم بوذا كانت من الأطهار وأنها حملت من قوة خارقة و لم تلد سواه. تدعو البوذية الراهب للإبتعاد عن الملذات الجسدية الجنسية، أما عند جماعة الهندوس فالزواج عندهم كان غاية الغايات و يسمح بالعزوبة في ظروف خاصة كصفاء النفس وطهارتها ( أي في حالة الرهبنة فهي مفروضة) ، وبالنسبة لدور رجال الدين في الهند فقد كانوا يقومون بتنظيم قانون الزواج لدرجة أنهم كانوا يفرضون على كل من لم يزوج ابنته عندما تصل إلى سن الثانية عشرة من عمرها عقوبات شديدة ( انظر:كارين صادر،1996 ،32-35 ). مما سبق يتضح للقارئ كيف كانت الشعوب القديمة( كالتيبت الغربية والصينيون القدماء و اليونانيون و الهنود ) ينظرون لموضوع العزوبة والتأخر في الزواج لكن في الواقع الحالي فإن الزواج يعتبر شاناً شخصياً فردياً مع الإشارة إلى أن غالبية المجتمعات ما زالت تشجع القيام بالزواج لما له من انعكاسات إيجابية على الفرد و المجتمع، وتعمل على إزالة العقبات أمام الراغبين بالزواج.

 

بقلم:

 د.جهاد الناقولا /المعهد العالي للدراسات و البحوث السكانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock