لماذا طغت «قيمة» المال على كل القيم الأخرى؟
هناك شبه اجماع على أن سلَّم القيم في المجتمع الكويتي شهد اختلافاً كبيراً في الاولويات على مدى السنوات العشر الماضية. وتقدمت قيمة المال واكتنازه وكيفية الحصول عليه والصرف منه على عدد من القيم المجتمعية الأخرى.
ويطرح السؤال: هل أصبحت «قيمة» المال في رأس كل القيم الاخرى؟ وماذا عن قيم المواطنة والانتماء والقناعة وعدم الحسد والفرح لنجاحات الاخرين وعمل الخير والتبرع للمحتاجين والتعاضد والتكافل والتضامن؟ ماذا عن الكسب الشريف والانتاج الحقيقي؟ ماذا عن النزاهة والشفافية والكف النظيف؟ وماذا عن الزهد والتقشف ورفض التبذير والهدر؟
هناك اسئلة اخرى لا تقل اهمية عن «موقع» المال في الصراع السياسي، وكيف ان شعار «توزيع الثروة» مدرج في مجمل الخطابات والبيانات، حتى ان البعض يرى ان الاصطفافات بين مؤيد ومعارض قائمة على المصالح المادية لا التقييم الموضوعي لاداء هذا أو ذاك.
على الصعيد الاجتماعي، تبرز أحياناً مقارنات تصنيف يرد المال بين معاييره، لا بل نجده لدى البعض معياراً أول للمقارنة، فاختلط حابل الكسب المشروع باتهامات الفساد، واختلطت لدى كثيرين أساليب «الحكم» على الناجحين والأثرياء.
لا تكاد تخلو قضية مطروحة إلا وفيها صراع خفي أو معلن حول «المال». لنأخذ مثلاً قضية الإصلاح الاقتصادي والمالي التي انحرف فيها النقاش إلى من عليه التضحية بمكتسباته مقابل آخر يرفض. لنأخذ مثالاً آخر عن أملاك الدولة، فهل هي ثروة قابلة للتطوير وخلق فرص عمل في سبيل التقدم والازدهار والرفاه للجميع، أم أنها أرض ممنوع استغلالها تحت ذريعة أنها ستكون من «حظ» هذا أو نصيب ذاك على حساب كل الآخرين؟
أما قضية الإسكان العالقة في عنق الزجاجة بسبب رفض البناء العمودي للمواطنين والسعي لترسيخ نموذج قائم غير مستدام حتى لو على حساب المال العام، لأن مواطنين يرفضون أن يكونوا إلا مثل آخرين من حيث الثروة العقارية.
أمّا عن أنماط الاستهلاك المفرطة فحدِّث ولا حرج، خصوصاً في امتلاك السيارات والسفر والبذخ في شراء الفاره والفاخر، ليس للحاجة إليه، بل لأنه «علامة» من علامات «الرقي الاجتماعي» في نظر البعض.
المال والسلطة
أوضح النائب الأول لرئيس غرفة التجارة والصناعة عبدالوهاب الوزان أن جمع المال حالة مرتبطة بالنفس البشرية وهي غريزة من الغرائز الموضوعة في نفوسهم، فـ«المال عديل الروح» كما يقول أهل الكويت.
واعتبر الوزان أن الذين لديهم توجه بجمع أكبر قدر من المال، ليس للتباهي، وإنما لإيجاد نوع من السلطة «فالمال نوع من السلطة»، وعندما يصل الجمع إلى مستوى معين قياسي، فإنه بالتأكيد سيساعد بالوصول إلى مراكز السلطة وبالتالي يكون له مكانة عالية.
وأكد أن المشكلة ليست في جمع الأموال، وإنما في كيفية الاستفادة منها، فإذا كان هدفاً في حد ذاته، فهو في خانة «التسلط»، أكثر من خدمة المجتمع، لافتاً إلى أهمية استعمال جمع الأموال في بناء المجتمع والاقتصاد، وتعدد مصادر الدخل، كون هؤلاء الأغنياء يساعدون الفقراء والمساكين، ويبنون المشاريع ويفتتحون المستشفيات والمدارس ودور رعاية الأيتام.
وقال: إن من المؤكد أن هناك فئة وصلت إلى تخمة مالية تتباهى بها، حيث إن هناك مراكز عالمية لتقييم أصحاب الأموال، ومنها ما تكون صحيحة، ومنها ما تكون أرقاماً غير دقيقة، مؤكداً أن جمع الأموال يجب أن يكون هدفاً اجتماعياً وإنسانياً بالدرجة الأولى.
من ناحية أخرى، رأى الوزان أن المجتمعات المتقدمة والمتطورة تنظر إلى أصحاب الثروة والشهادات على حسب مستوى أدائهم في المجتمع، مؤكداً أن تلك المجتمعات عندما توجهت إلى التعليم وحاربت الفساد وصلت إلى مصاف الدول المتقدمة مثل سنغافورة وماليزيا وغيرهما.
وأضاف: كذلك أصحاب الأموال إذا كانت هناك قوانين تنظم ثرواتهم على أسس صحيحة فمن المؤكد أن هذه الثروة تساعد في بناء التعليم بشكل متطور، وتساهم في بناء الوطن، موضحاً أن الدول التي لديها حكومات تضع القوانين والتشريعات، وليس لديها مداخيل أخرى إلا فرض الضرائب وهو الموجود حالياً في الدول الأوروبية وأميركا، فإن هذا المردود سيصل إلى المجتمع بالتأكيد، فالمال مطلوب والشهادات العلمية مطلوبة، وإذا ما اجتمعا فالوطن هو المستفيد الأول.
مجتمع استهلاكي
أما الخبير الاقتصادي حجاج بوخضور فله رأي آخر، ويقول: إن المجتمع الكويتي أصبح مجتمعاً اتكالياً استهلاكي النزعة، وعنده سوء فهم لمعنى الرفاه الاجتماعي.
وأضاف بوخضور أنه لابد أن نتعرف على التغيير في سمات الشخصية الكويتية، إذ أصبح المواطن الكويتي يعاني من فراغ مفتعل ويعيش بتناقض شديد وازدواجية في الصفات والسلوك، بحيث يدعي حب الوطن ويتعامل معه كبلد مؤقت، يطالب بالإصلاح وينتخب بمعايير قبلية وطائفية وحزبية فيقدم غير المؤهل على الأمين القوي، حتى أصبحت النزعة الاستهلاكية متأصلة في سمات الشخصية الكويتية، وكذلك نجد السطحية وحب الظهور الممزوجتين بدرجة غريبة من الغرور والعنجهية؛ فيكفي أن تستمع يوماً إلى حديث بين شباب في ديوانية أو سيدات في حفلة شاي، لتتعرف على أي درجة من السطحية واللامبالاة والشخصانية والأنانية في رؤية الأمور.
وأكد أن هذا التغيير في سمات شخصية المواطن مرده وسببه معطيات وخطاب كل من منابر الإعلام والسياسة والوعظ في الخطاب الاجتماعي والديني، حتى أجبرت الشخصية الكويتية على التغير إلى النزعة المادية والاستهلاكية المفردة، لأن الشخصية تتأثر بالمحيط الاجتماعي، وأعتقد أن أولى الإصلاحات في الشخصية الكويتية يجب أن تكون من خلال
إصلاح وتغيير الخطاب الإعلامي والممارسة السياسية والتشريعية.
واختتم بوخضور بأن الاقتصاد الكويتي هو اقتصاد ريعي، في حين أن سياساته المالية ومعالجاته الاقتصادية خاطئة.
التنشئة الاجتماعية
قالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة الكويت الدكتورة سهام القبندي، إن قيمة المال مرتفعة منذ بدايات الخلق «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»؛ لذلك فالحصول على المال هو مطلب ووسيلة لتحقيق حاجات الإنسان ومطالبه الحياتية.. فمن دون المال لا يستطيع تحقيق حاجاته اليومية المختلفة.
وأضافت القبندي أن المال ارتبط بالعمل والإنجاز وبذل الجهد، وبمقدار ما يبذل الإنسان من جهد وعمل يحصل على عائداته المالية التي تحقق طموحه في توفير احتياجاته كافة، بل نحن نتحدث عن الطموح في رفع مستوى المعيشة بكل مستوياته الصحية والتعليمية والمعيشية وحتى الترفيهية، وهذا لن يتم إلا من خلال رفع مستوى الدخل وزيادة تحصيل الرواتب. ولفتت إلى أن طبيعة الإنسان محب للرفاهية، فالإنسان يعيش وسط مجتمع، وأبناؤه يحتكون مع أبناء الآخرين، كما أن العالم الحالي المفتوح والمتطور تكنولوجياً أوجد رغبة لدى الجميع في الاقتناء والحياة كما الآخرين، فالجميع في دول العالم يحاولون أن يقتنوا كل تكنولوجيا الاتصال والتواصل عبر العالم واكتساب المعلومة والمشاركة والبحث عن سبل الارتقاء والغنى وتحقيق الطموح، فالتواصل الاجتماعي وفّر كل المعلومات والبيانات التي تسهل الحياة بل الأكثر.
وأكدت أستاذة علم الاجتماع أن قيم الأفراد اختلفت «وما كان حراماً وعيباً في السابق لم يعد كذلك بالنظرة السابقة نفسها»، كما ظهر الكثير من وسائل الغنى وتحقيق الأموال بعيداً عن الدراسات والعمل، حيث انتشرت مؤخراً أعمال خاصة عبر وسائل التواصل يستطيعون من خلالها كسب الأموال الكثيرة بسهولة وتحقيق الغنى بعيداً عن جهد الدراسة والشهادات.
وتابعت: «أيضاً يجب ألا نغفل أن دور الأساليب التربوية والتنشئة الاجتماعية في غرس القناعة والرضا والقيم الأخلاقية والقيمة الحقيقية بالشخصية وليس بما يملك الأنسان».
ورأت القبندي أن هناك ارتباطاً بين سلوك الإنسان والظروف المحيطة، كما هو حاصل الآن في العالم العربي الملتهب بالكوارث والحروب والهجرة وفرص العمل الصعبة، مبينة أن هذه الإشكاليات خلقت نوعاً من انعدام الشعور بالأمن الاجتماعي والنفسي، الذي يرجع إلى المخاوف التي يشعر بها الإنسان نتيجة التهديد من الحروب والدمار في كل مكان، وهناك تهديدات يسمعها الإنسان بأن الحرب العالمية الثالثة قادمة لا محالة، وأعتقد أن كل ما يتعرض له الإنسان من معطيات، سواء الإيجابية، وهو رفع مستوى المعيشة والجودة، أو السلبية في كثرة الحروب والتهديدات، تدفع سلوكه إلى أن يتشكل في توفير احتياجاته للمستقبل، لذلك لوحظ مثلاً توجه الكثيرين إلى شراء العقار خارج الكويت، وكذلك فتح الأرصدة خارج الدولة، وهذا مؤشر لبحث الإنسان عن الأمن النفسي.
المال وسيلة
من جهته، اعتبر رئيس قسم علم النفس في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت، الأستاذ الدكتور عويد مشعان الهذال، أن «المال وسيلة وليس غاية»، إلا أنه ضروري في المجتمع.
وأرجع سبب انتشار ظاهرة تعاظم قيمة المال لدى المواطنين خلال السنوات الماضية، إلى أن الناس تركز على المال وانتشار الفساد والسرقة، وتتناسى وتترك الأشياء الأخرى، ولا تعطيها تلك الأهمية الكبيرة، مثل المشاريع التنموية وتطوير التعليم وغيرها.
وأكد أن إسقاط الضوء على بعض الناس ــ وهم قلة ــ لأن لديهم أموالاً ليس مقياساً موضوعياً، لافتاً إلى أن قيمة المال هي اجتماعية أخلاقية، وليست اقتصادية في المقام الأول، وأن يسخر من أجل نهضة البلد، لا أن يدخر فقط.
انتشار الغيرة والحسد
بدورها، قالت أستاذة علم النفس في جامعة الكويت، الدكتورة أمثال الحويلة، إن دراسة سابقة عن القيم والبناء القيمي في المجتمع الكويتي، قام بها مكتب الإنماء الاجتماعي في العقد الماضي، كشفت وجود تغيير في البناء القيمي للمجتمع من حيث ارتفاع القيم المادية عن القيم الاجتماعية والأخلاقية وقيمة العمل وخلافه.
وأضافت الحويلة: من هنا أصبح الحديث والحوار عن المال في جميع النقاشات والمجالس، إذ أصبح الشغل الشاغل لغالبية أفراد المجتمع الكويتي، مشيرة إلى تحول معايير النجاح والتفوق من الناحية العلمية والمكانة الاجتماعية كلها إلى المكانة والمستوى الاقتصادي، مؤكدة أن هذا ما حدث في المجتمع الكويتي، من حيث ارتفاع القيم المادية وأثرها في سلوك الفرد وتوجهاته وأهدافه، إذ إن القيم هي التي تجعل الإنسان إنساناً.
وأشارت إلى أن الأديان لعبت دوراً كبيراً في تنظيم حياة الإنسان من خلال وضع قيم تحكم علاقته بالكون من حوله وتنظم حياته، ولكن الإنسان مع تقدمه وتحضره لم يعد يلتزم بالضوابط الدينية، فانجرف إلى البدائل التي تشبع رغباته وأهوائه بعيداً عن قيم الأخلاق والضمير والعمل.
وأوضحت أن القيم المادية هي عبارة عن سلوك يسعى به الفرد إلى تحقيق مطلب شخصي أو منفعة وإشباع فوري للحاجات مهما كانت، وفي مجتمعنا عندما طغت القيمة المادية أصبح للقيم الأخرى دور هامشي في حياتنا.
وأكدت الحويلة انخفاض قيمة العمل، وأصبحت أهميته فقط في جدواه المادية، بغض النظر عن دور العمل في بناء النفس وتوكيد الذات والمكانة العلمية والاجتماعية، وأصبح السعي وراء الكسب السريع أكثر من انتظار الراتب أو ضياع الوقت في الالتزام بوظيفة أجرها مؤجل إلى آخر الشهر، وبالتالي أصبح البحث عن الكسب السريع بغض النظر عن مشروعيته، ومن هنا زادت الانحرافات والسلوك غير السوي والتعدي على حقوق الآخرين.
وبالنسبة للقيم المادية والمظاهر، قالت أستاذة علم النفس إن ارتفاع قيمة المال بغرض المظاهر ورسم الصورة الذهنية للثراء والاستعراضية المادية عند الرجل والمرأة مثل أهمية وجود ساعة فاخرة أو ملابس وإكسسوارات أصلية وهواتف وسيارات كلها تصب في ناحية الاستعراض وليس لتأدية الغرض، فالساعة التي ثمنها أكثر من 3 آلاف دينار هي نفسها تقوم بوظيفة الساعة العادية، وكذلك بقية الأغراض.
وأضافت: من المؤسف أن الانشغال بالمظاهر أصبح على حساب الحياة الاجتماعية، حتى أصبح التباهي بالسفر «موضة جديدة»، ومن الممكن أن يستدين الشخص أو يأخذ قرضاً لشراء موبايل أو ساعة فقط من أجل المظاهر والشكل الخارجي.
ولفتت إلى أن ارتفاع القيم المادية أثر في القيم الاجتماعية من حيث انتشار مشاعر الغيرة والحقد والحسد والنزاعات بين الأفراد، وانخفاض قيمة الأسرة وترابطها وأهميتها في حياة الشخص، وانخفاض قيم الأخلاق والمبادئ وانخفاض الروابط الروحية والوجدانية بين الأفراد، وبالتالي شيوع الكثير من الآفات مثل الرشى والاحتكار وغيرهما من السلوك غير السوي، وكذلك أثر ذلك على الناحية النفسية وشعور الفرد بذاته وكينونيته وسط المجتمع.
القبس