د. حسام عرمان يكتب: كوريا الجنوبية.. تكنولوجيا النجاح ونجاح التكنولوجيا
انظر من حولك وستشاهد شاشة تلفاز أو كمبيوتر أو ثلاجة أو موبايل أو اخرج إلى الشارع وسترى سيارة أو انظر إلى البحر وسترى سفناً عملاقة، كلها منتجات تمكنت كوريا الجنوبية من صناعتها، هذه الدولة الصغيرة التي زُرناها الشهر الماضي ضمن برنامج علمي استمر لعشرة أيام، تعلمنا فيها كثيراً عن التجربة الكورية المميزة التي وصفت بالمعجزة، وقد كنت معجباً بها كما التجربة السنغافورية والماليزية، وقد قرأت كثيراً من التقارير الدولية والمقالات العلمية، إلا أن الزيارة الميدانية والحديث مع الخبراء والناس بشكل مباشر هناك عرّفني أكثر وألهمني أن أكتب وأدوّن بعض الدروس التي يمكن الاستفادة منها في عالمنا العربي، وكما يقول المثل الفلسطيني “الحكي مش زي الشوف”، وبدأت الحكاية الكورية معي والطائرة تقترب من الهبوط، وأنا أتأمل في السفن تذهب وتجيء وكأن ميناءها خلية نحل تدل على حجم الاستيراد والتصدير والاستثمار والتوفير بالعين المجردة ودون الذهاب إلى تقارير البنك الدولي.
كوريا تم احتلالها من قِبل اليابان لمدة 35 سنة، كانت سنوات عجافاً هزت أركان المجتمع، فحتى اللغة الكورية تم استبدالها باليابانية بالإكراه، وبعد التحرر من اليابانيين وانهزامهم في الحرب العالمية الثانية انقسمت، أو بالأحرى تقسمت، بين الاتحاد السوفييتي شمالاً والولايات المتحدة الأميركية جنوباً، وكأنها كعكة سبيل.
أعلنت كوريا الجنوبية استقلالها عام 1950 واندلعت على أثرها الحرب الكورية، وقتل وجرح فيها الملايين ثم انقسمت الكوريتان رسمياً، وبمساعدة الولايات المتحدة نهضت كوريا الجنوبية وولدت قصة نجاح من رحم معاناة خلال عشرين سنة بقيادة الجنرال باك تشونغ هي.
تحققت المعجزة التي زعم الجنرال الأميركي دوغلاس آرثر حينها أن كوريا لن تقوم لها قائمة قبل قرن من الآن.. لكن الكوريين دحضوا هذه المقولة، وحققوا المعجزة، وقاموا بتشييد البشر والحجر خلال فترة قياسية.
صحيح أن هناك العديد من السياسات والممكنات التي قامت بها الدولة بهدف النهوض من دولة فقيرة إلى دولة متقدمة، وذلك يشمل تطوير المؤسسات والتشريعات والسياسات الاقتصادية والمالية، سياسات الاستثمار والتجارة الدولية، والتنمية البشرية، وخصوصاً التعليم، إلا أن سياسة العلوم والتكنولوجيا طويلة الأمد كانت الرافعة الأساسية لتضافر الجهود وقيادة دفة النهضة من خلال تحديد أهداف تنموية طويلة الأجل وفي قطاعات رائدة وصفت أحياناً بأنها مغامرة، وقد شرح هذه المكونات والسياسات الاقتصادي المعروف الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد مايكل سبنس، في دراسته لعدة دول حافظت على نموها الاقتصادي لفترة طويلة.
وفي هذه المقالة سأذكر لكم الدروس التي ربما تحيزت فيها إلى أمور معينة شدت انتباهي انطلاقاً ربما من تخصصي وما توافق مع أفكاري، فحصر الدروس من جميع الجوانب سيكون عملية صعبة:
1- التخطيط السليم واستشراف المستقبل:
وضعت الحكومة رؤية وخطة طويلة الأمد ارتكزت على تطوير التكنولوجيا، ابتداء من التوطين وانتقالاً إلى التطوير، اقترضت في البداية واستثمرت القروض والمنح أحياناً في ما هو استراتيجي يخدم الغاية الأساسية، فركزت على شراء التكنولوجيا والمعدات والمواد الخام، وبناء المصانع، وتأهيل المؤسسات التعليمية (طبعًا الآن كوريا تتبرع ببليوني دولار سنوياً كمساعدات للدول الفقيرة، فسبحان مغير الأحوال لمن أراد أن يغير!)، اعتمدت الدولة خططاً خمسية، أي كل خمس سنوات خطة تتم متابعة تنفيذها وتقييمها للتأكد من أنها تصب في الرؤية طويلة الأمد، وتحقق النمو الاقتصادي المطلوب، وقد بلغ قيمة قياسية في بداية التسعينات، حيث وصل إلى 9.8%. وإذا قِسنا هذه القفزات الاقتصادية باستخدام الناتج القومي للفرد فقد ارتفع من 63 دولاراً في سنة 1950 إلى حوالي 27000 في سنة 2015.
2- الاستعانة بالحس الوطني:
قامت الحكومة باجتذاب الكفاءات والعلماء من خلال إنشاء مركز بحثي متميز وفرت فيه الاحتياجات البحثية، براتب يعادل ثلث ما يأخذونه في أميركا، ومع ذلك جاءوا ليخدموا بلدهم عندما وجدوا صدق الحكومة وإيمان المجتمع بقدرته على النهوض وتجهيز الدولة لكافة الاحتياجات العلمية من مختبرات وبنية تحتية مناسبة؛ ليحقق الباحث ذاته أيضاً وينجح في مضماره، وهناك قصة عظيمة في تكاتف الشعب قرأت عنها في أحد تقارير الـ”بي بي سي” سنة 1998 وأخبرتني عنها فتاة كانت صغيرة حينها، عندما مرت الدولة بأزمة مالية كبيرة في التسعينات؛ حيث بادر الشعب والشركات إلى التبرع للدولة بالذهب من مدخراتهم الشخصية؛ لتتم إذابته وبيعه بالأسواق العالمية، ولم يكن ذلك ضمن نداء رسمي من الدولة، بل مبادرات مجتمعية، وذكر أحدهم من الجيل الذي شهد النهضة أنه كان سعيداً برد الجميل للدولة التي منحتهم الرخاء والحياة الكريمة وهي الآن في شدة، فكأنها لهم صديق أحبوه وعرفوه وقت الرخاء والضيق، وقد ذكر أنه تم جمع عشرة أطنان ذهب خلال أول يومين من الحملة الشعبية.
3- البحث العلمي والتعليم:
اهتمت الدولة في تحقيق رؤيتها للنمو الاقتصادي على ركيزتين تمثلتا في التعليم ومنظومة العلوم والتكنولوجيا (وهنا نقول لغير المتخصصين: التكنولوجيا هي الوصول إلى التطبيق العملي للعلوم، فسياسة النهضة اهتمت أكثر بالتكنولوجيا وليس البحث العلمي، بهدف العلم بحد ذاته على أهميته) وقد أنشأت الدولة معهد أبحاث متخصصاً سنة 1966 KIST ووزارة العلوم والتكنولوجيا عام 1967 وجامعة علمية خاصة سنة 1971 KAISTI مستقلة لا تتبع للتعليم العالي كي تعمل بحرية كبيرة وتهتم بالبحث العلمي، وكانت مجانية، لكنها تختار المتميزين من الطلبة لرفد المؤسسات البحثية المدعومة من الحكومة بالعلماء والمهنيين وتخرج علماء المستقبل.
ولقد لعبت مراكز البحث والتطوير والجامعات دوراً مهماً في بداية النهضة الصناعية لمساعدة الصناعة والشركات لنقل وتوطين التكنولوجيا، بسبب عدم قدرة الشركات في حينها، بسبب قلة الخبرات الفنية، وكان ذلك فترة الثمانينات؛ حيث كان التركيز على تطوير وتعزيز الصناعات الغنية بالتكنولوجيا وليس بالضرورة كونه إنتاجاً معرفياً أصيلاً أو تكنولوجياً جديداً لكنه كان تطويراً ويدر أرباحاً كبيرة حينها، ومن ثم انتقلت الاستراتيجية إلى التطوير والابتكار بمساعدة هذه المراكز البحثية، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث والتطوير في الشركات الصناعية التي أصبحت مصدراً رئيسياً للابتكار، فلقد أصبحت تعتمد على نفسها كثيراً؛ حيث تبلغ ميزانية البحث والتطوير لأحد مراكز سامسونغ مثلاً ما مجموع جميع المراكز الحكومية التي تتجاوز 25 مركزاً علمياً، كما ذكر لنا أحد المحاضرين هناك.
وفي التعليم، استفاد الكوريون من ثقافتهم التي تستمد سماتها كثيراً من “الكونفوشية” في تقدير العلم والعلماء والأدب والأخلاق، وخصوصاً مع الآباء والكبار في السن والمركز، بالإضافة إلى التكاتف والتعلم من البعض، إلا أن ثقافة الاجتهاد والعمل الجاد ساعات طويلة واعتبار التعليم المدخل الرئيسي لحياة كريمة ومتميزة جعل الطالب المحرك الرئيسي في منظومة التعليم، فلا يعرف عن كوريا استثمارها الكبير في التعليم إلا أنها قامت بتعديلات جوهرية كبيرة في نظامها التعليمي فقد عدلته 7 مرات منذ عام 1954؛ ليتماشى مع الاحتياجات الوطنية والاستراتيجيات التنموية، وخصوصاً سياسة العلوم والتكنولوجيا كما ذكرنا، وهي تحتل هذا العام المركز الأول عالمياً في التعليم الأساسي، كما ذكرت مجلة إم بي سي تايمز، حسب مقياس SPI.
4- اختيار النموذج الوطني والاعتماد على الثقافة الأصيلة:
ما لفت انتباهي أيضاً اعتزاز الكوريين بثقافتهم وتمسكهم ببلدهم وانتمائهم لحضارتهم، رغم أنني لم أجدها غنية وضاربة في جذور الأرض مثل البلاد التي جئنا منها، كما قال زميلي من مصر، وغيرها من البلاد التي جاءت لتتعلم من التجربة الكورية.
وبالتالي قامت الدولة بتصميم نموذجها الخاص مستعينة بالتجارب الدولية، وخصوصاً تجربة جارها المارد الياباني العنيد، فمثلاً لم تتبع الدولة النظام الرأسمالي الأميركي في مشروع نهضتها، رغم أنها تلقت دعماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً منها، لكنها استخدمت أسلوبها الخاص المتمثل بدعم الصناعة والشركات الكبرى بشكل مباشر، ولكن لفترة معينة، ثم تركتها تعتمد على نفسها وسمحت للفاشلة أن تخرج من السوق، أما الشركات الصغيرة فما زال هناك برامج دعم مالي وتقني، لكن ضمن منهجية تشجع استغلال نتاج المؤسسات البحثية، وما زالت الدولة تلعب دور الأب الحاني، ولن تترك هذا الدور أبداً، كما أخبرني أحد المحاضرين عندما سألته في هذا الموضوع، فيبدو أن نظرية “كوز الاقتصادية” لا تعنيهم كثيراً، فثقافتهم “الكونفوشية” ما زالت متأصلة فيهم، واستفادوا منها في نظامهم الاجتماعي والمهني الصارم، والذي خدمهم في موضوع التعليم كما ذكرنا، فالمعلم سر نجاح العملية التعليمية، وله مكانة خاصة في قلوب المتعلمين وراتبه الحكومي ممتاز.
5- القيادة المخلصة:
وأخيراً وليس آخِراً، كان دور القيادة الكورية الأولى متمثلة بالرئيس بارك محورياً، كان عسكرياً ورئيساً ديكتاتوراً، لكن يمكن أن نسميه ديكتاتوراً حميداً، فقد كان مخلصاً لبلده، فعمل بجد حسب معرفته وعاطفته، بالإضافة إلى استغلال الخبرات العالمية والمحلية، فقد قيل إنه قام سراً بالاستعانة باقتصاديين من أميركا (فازوا بجائزة نوبل في الاقتصاد)، لتحديد سياسة الدولة؛ لتنتقل من دولة فقيرة إلى دولة متطورة، ولم يعرف ذلك أحد حتى وفاته، حسب قولهم، يقر الكثير في كوريا أنه أخطأ وأجرم أحياناً، كما أخبرونا، واستغربت عدم إنكارهم ذلك بشدة، لكنه مع ذلك اكتسب احترام شعبها ولم ينتقم لشخصه، بل لمصلحة شعبها كما برروا، فيبدو أن نموذجه كان ناجحاً حينها، فالزمن تغير ولم يعد هذا النموذج مقبولاً.
لكن الدرس هو أهمية وجود قيادة تمتلك رؤية مستقبلية وعندها الإرادة والقوة، وتستطيع أن تستنهض الهمم والأمم وطاقة الشعوب والشباب باتجاه أهداف بعيدة المدى، لكنها عملية ومبنية على تجارب ناجحة ومنهجية علمية، ولعل تجربة لي كوان يو في سنغافورة ومهاتير محمد في ماليزيا دليل دامغ على ملاءمة طبيعة القيادة وطبيعة المرحلة والثقافة العامة حينها، لكن بالتأكيد القيادة المخلصة والقوية بحاجة إلى مظلة أخلاقية حتى تتفوق ويدوم صيتها كنموذج مثالي حتى بعد رحيلها.
وفي النهاية أقول بالكوري: “كامسا هاميدا” كوريا على هذه الدروس المميزة.
د.حسام عرمان
نقلاً عن هافنغتون بوست