تعليم المهارات.. أهم أولويات نهضة التعليم .. «مهارات البحث التاريخي أنموذجًا»
مما لا شك فيه أن تعليم وتعلم المهارات بمختلف أنواعها في عصر الثورات المعرفية، والمعلوماتية صار من أهم أولويات أنظمة التعليم في معظم دول العالم، وتعتبر مهارات البحث التاريخي من أهم تلك الأولويات لما لها من مردود معرفي، وقيمي، وحركي يحقق أهداف أي نظام تعليمي ويساعد في تعليم جوانب التعلم المتضمنة في محتوى مناهج التاريخ التعليمية، بما يخدم كل عناصر العملية التعليمية ويحقق أهداف المجتمع في تعليم أبنائه.
وفرضت تلك الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي السريع على المجتمعات ضرورة مسايرة نظم التعليم لهذا التطور المتلاحق، والاستفادة من مصادر المعرفة المتنوعة، لأن هدف التعليم الأسمى هو إعداد الطالب للتعامل مع الحياة، ومن هذا المنطلق كان لا بد من الاهتمام بمهارات البحث التاريخي، كخطوة مهمة لتعامل الطلاب مع المعرفة عامة وعلم التاريخ خاصة.
إلا أن التدريس الآن قائم على اتباع الطرق التقليدية التي تعتمد على الحفظ والاستظهار واعتماد المعلم على طريقة السرد، دون قيام التلميذ بأي نشاط ينمي مهاراته وتفكيره. وكل هذا يجعل من مادة التاريخ مادة قابلة للنسيان، ولهذا يجب أن نستخدم طرق تدريس حديثة مسايرة لروح العصر الحالي؛ لتضفي على مادة التاريخ المتعة والتشويق، وتنمي مهارات البحث التاريخي لدى التلميذ.
لقد بات واضحًا وجليًا أننا أمام تحدٍّ حقيقيٍّ من تحديات الميدان التربوي، وهو كيفية توظيف مهارات البحث التاريخي في الميدان التعليمي، وسد الفجوة بين النظرية والتطبيق، ولعل هذا التحدي يمثل إشكالية، لما له من انعكاس على واقع العملية التعليمية برمتها، وعلى نواتج تعلم طلابنا المعرفية والوجدانية والمهارية. ومن هنا يتضح التحدي الذي يقابل مهارات البحث التاريخي؛ إذ إن مناهج التاريخ لا تستند على نظرية واضحة أو فلسفة محددة. خصوصًا أن مرحلة التعليم الثانوي تعد مرحلة متميزة من مراحل نمو المتعلمين؛ إذ يقع عليها تبعات أساسية، وذلك للوفاء بحاجاتهم ورغباتهم وتطلعاتهم، وإعدادهم في الوقت ذاته للوفاء باحتياجات المجتمع ومتطلباته التنموية، ويعد المنهج المدرسي الوسيلةَ الرئيسةَ التي يستخدمها أي نظام مجتمعي في ترجمة أهدافه ونقلها للناشئة، من أجل إحداث التغيرات التي يرغب فيها وينشدها منهم، وعلى ذلك تكون المناهج الدراسية مرآةً صادقة تعكس ظروف المجتمع الحقيقية.
إن التاريخ لم يعد مجرد رصد أو سرد لوقائع الأحداث أو تمجيد لأشخاص أو قص الملحمات، إنما يمكن القول بأن وظيفة علم التاريخ هي محاولة استدعاء ما حدث في الماضي، عن طريق معرفة الأحوال والأحداث التي حدثت، ليس من أجل إعادتها مرة أخرى في الحاضر الذي نعيشه، بل تفسير هذه الوقائع والأحداث في ضوء تحليل المكونات المختلفة للمجتمعات والتغيرات التي طرأت على هذه المكونات، واكتشاف أسباب هذا التغير والتحول، ومعرفة العناصر التي أدت إلى هذا التغير.
ولعل من أهداف تدريس التاريخ والتي يغفل عنها معلمو التاريخ إدراك حقيقة التغير في المجتمع، إذ إن التغير في المجتمع عملية اضطرارية مستمرة، ومن دراستنا لتتبع الوقائع التاريخية، نلاحظ أن هناك فترات من التاريخ تميزت بالبطء، فالتغير لا يسير بدرجة واحدة وبالتالي فهو يهتم بدراسة التطور الاجتماعي، والتاريخ وحده هو الذي يوضح حتمية التغير وأهميته، كما أنه يقيس التقدم في ميادين عديدة، وقد يصل -عن طريق التحليل المستمر للتقدم في يوم ما- إلى قوانين يمكن عن طريقها القبض على زمام الجماعة وتوجيه سيرها نحو التقدم المرغوب.
يرى هرنشو (Hernsho) أن التاريخ ليس علم تجربة واختبار، لكنه علم نقد وتحقيق، وأن أقرب العلوم الطبيعية شبهًا به هو علم الجيولوجيا؛ فكلٌ من الجيولوجي والمؤرخ يدرس آثار الماضي ومخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه من الماضي والحاضر على السواء، ويزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث اضطرار الأول إلى أن يدرس ويفسر العامل البشري الإرادي الانفعالي حتى يقترب بقدر المستطاع من الحقائق التاريخية، وعلى ذلك نجد أن التاريخ مزيجٌ من العلم والأدب والفن في وقت واحد.
والتاريخ كعلم يشارك العلوم الأخرى في أهم ما يميزها، وهو أن له منهجًا خاصًّا للبحث والتفكير؛ ولذلك فهو ينطوي على قيمة تربوية كبيرة، فهو إذا أحسن تعليمه يتيح الفرصة للمتعلمين للنشاط العقلي والإبداعي، ويفسح مجالًا واسعًا أمام الطلاب لإشباع حب استطلاعهم والتدريب على النقد والتمييز والتفكير للمستقبل.
ولما كانت كتب مناهج البحث العلمي عامة، ومناهج البحث التاريخي خاصة تساعد على اشتقاق مهارات البحث التاريخي اللازمة، وتحديد الخطوات التي يمر بها الباحث سواء أكان مؤرخًا أو معلمًا أو متعلمًا، كان من الضروري فهم طبيعة هذا المنهج لمعرفة هذه المهارات والتمكن منها، وإن اختلفت درجة تمكن كل منهم منها.
فيصف العلامة محمود شاكر في كتابه «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» منهج البحث التاريخي بقوله: فهذا الذي يسمى «منهجًا» ينقسم إلى شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق، فشطر المادة يتطلب قبل كل شيء، جمعها من مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصًا دقيقًا، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذق وحذر، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيف جليًّا واضحًا، وما هو صحيح مستبينًا ظاهرًا، بلا غفلة وبلا هوى وبلا تسرع. أما شطر التطبيق، فيقتضي ترتيبَ المادةِ بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها، باستيعاب أيضًا لكل احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع. ثم على الدارس أن يتحرى لكل حقيقة من الحقائق موضعًا هو حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوِّه عمودَ الصورة تشويهًا بالغ القبح والشناعة.
فالمؤرخ كالرسام يضع إطارًا عامًّا للفكرة التاريخية، وفي نطاق ذلك الإطار يبدأ في وضع تفصيلات القضية التي يناقشها، وهي تضارع صورة الفنان الذي يوضح ما يرى توضيحه مركزًا على جوانب معينة منها مسلطًا الأضواء على ما يعتقد أنه الحقيقة، ويقدم ما تحت يديه من أدلة وقد يحكم أو يترك الحكم لمن يأتي بعده، وهو في كل الأحوال يستلهم الحقيقة ويستشرف الأوضاع السابقة التي يفصل بينه وبينها آلاف السنين.
وتتمثل أهمية مهارات البحث التاريخي في العديد من النقاط أهمها:
١- المساعدة على الكشف عن الأصول الحقيقية للنظريات والمبادئ وظروف نشأتها.
٢- مشكلات الإنسان في الماضي، وأساليبه في التغلب عليها، والعوائق التي حالت دون إيجاد حل لها.
٣- تحديد العلاقة بين الظواهر وبين البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ولعلنا ندرك أن مادة التاريخ في أصلها هي مادة نقد وتحقيق، يقوم على التحليل والتعليل، والربط بين الأسباب والنتائج، وترتيب الأحداث، وربط الزمان بالمكان، وهذا يتطلب من التلاميذ عند دراستها أن يكونوا مزودين بمهارات البحث التاريخي، التي تمكنهم من أن يبحثوا ويتساءلوا، إلى أن يصلوا إلى الحقائق التاريخية المدعومة بالأدلة؛ ومن ثمَّ فإن إكساب التلاميذ مهارات البحث التاريخي، هو أحد الأهداف الرئيسة من دراسة التاريخ على المستوى الدراسي.
وحدد الباحثون الكثير من مهارات البحث التاريخي التي ينبغي إكسابها للطلاب والمعلمين والمؤرخين مثل:
-
قراءة المادة التاريخية وفهمها.
-
ترتيب الأحداث التاريخية ترتيبًا زمنيًّا ومكانيًّا.
-
اختيار المصدر.
-
كشف العلاقة بين الأسباب والنتائج.
-
البحث عن الأدلة التاريخية.
-
النقد التاريخي للمصدر.
-
كشف الحقيقة التاريخية.
-
استخدام وقراءة الوثائق التاريخية.
-
التمييز بين المصادر الأصلية والثانوية.
-
استنتاج الحقائق التاريخية.
-
تكوين صورة متكاملة عن الموقف التاريخي.
-
إصدار الحكم.
ولكي يقوم المعلم بدور يستطيع من خلاله تنمية مهارات البحث التاريخي لدى الطلاب، ينبغي أن يتصف بعدة صفات وهي:
-
تهيئة بيئة فاعلة وغنية بالإثراء التربوي لدفع التلاميذ لممارسة مهارات البحث التاريخي.
-
يكون مشجعًا لإبداء الآراء.
-
يعمل على إيجاد جو ديموقراطي تتنامى فيه حقوق الأفراد في التعبير عن الذات.
-
طرح مشاكل محيرة أو مثيرة لاهتمام التلاميذ.
-
توجيه عملية النقاش في الفصل للوصول إلى النتائج المرجوة.
-
يعمل على تعزيز اهتمام التلميذ ودافعيته.
-
يحاور التلاميذ ويوجه النقاش.
-
يترك هامشًا واسعًا من الحرية للتلاميذ للتعبير عن الآراء.
خطوات وأسس اكتساب مهارات البحث التاريخي:
يمكن تحديد الخطوات التي يتم من خلالها اكتساب مهارات البحث التاريخي في النقاط التالية:
1- فهم المهارة:
وتتمثل هذه الخطوة في تزويد المتعلم بالمعرفة أو المعلومات عن المهارة محل الاكتساب من خلال:
أ- ذكر أهمية المهارة والحاجة إلى اكتسابها.
ب- التعرف بها وبما يرتبط بها من مفاهيم وأفكار تكشف عن ماهيتها وخصائصها.
مثال: مهارة التوصل إلى الحقائق التاريخية يتم من خلال بيان أهمية تلك المهارات ولماذا يتم التدريب عليها والسعي إلى اكتساب المتعلمين لها.
2- ممارسة المهارة بشكل أولي:
وتتمثل تلك الخطوة في قيام المعلم بعرض مجموعة من الحقائق التاريخية على المتعلمين بتوضيح الفرق بينها وبين الآراء التاريخية مع طرح التساؤلات والإجابة عليها أمام المتعلمين بنفسه.
3- ممارسة المهارة بشكل فعلي:
وتتمثل تلك الخطوة في قيام التلاميذ بممارسة المهارة بأنفسهم تحت إشراف المعلم وتطبيقًا لتوجيهاته وإرشاداته، ويقوم المعلم بتحديد السلوكيات التي تمكن منها الطلاب والسلوكيات التي لم يتمكن منها الطلاب وتدريبهم عليها حتى يصلوا إلى مستوى الإتقان.
4- إعادة التدريب على أداء المهارة:
وتهدف هذه الخطوة إلى تحسين أداء التلاميذ للمهارة، وذلك للوصول إلى مستوى الإتقان، وهذا يعني الممارسة والتكرار والتدريب وممارسة التغذية الراجعة feedback.
5- تطبيق المهارة وتقويمها:
وذلك للحكم على مدى التمكن من المهارة ككل، ومعرفة مستوى الأداء الكلي للمهارة، وتحديد أوجه النقص والقصور أو الأخطاء الناتجة عن تطبيق المهارة.
وبالتالي.. فإن دراسة التاريخ لم تعد مجرد أخبار حروب ومعاهدات، ولم يعد تدريسه مجرد نقلٍ للمعلومات والمعارف والحقائق التاريخية إلى أذهان الطلاب، ولكنه يعتبر طريقة من طرق التفكير العلمي، فهو قائم على النقد والمقارنة وعدم قبول الأحكام كقضايا مسلم بها، مهما كان مصدرها، إلا بعد وزنها عقليًّا، وربط السبب بالنتيجة، وتعليل الحوادث، وإرجاعها إلى دوافعها الأصلية.
وتعتبر المهارات أحد جوانب التعلم الأساسية في تدريس المواد الدراسية بصفة عامة والتاريخ بصفة خاصة، وترجع أهمية المهارات في تدريس التاريخ إلى أن محتوى المادة التاريخية ينصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة على دراسة الماضي الذي لا نعلم عنه شيئا إلا من خلال ما يقدم لنا في صورة معلومات أو حقائق تاريخية، وليس من المنطق أن نقبل هذه المعلومات أو تلك الحقائق قبولًا سلبيًّا بل يجب البحث والتقصي للتحقق منها.
وخلاصة القول أنه: ينبغي أن يكون المنهج المدرسي التاريخي شديد الصلة بالنسيج الاجتماعي العام للمجتمع، لأن المنهج السليم هو الذي يرتبط ارتباطًا عضويًّا بظروف المجتمع وبالمتغيرات المختلفة التي يمر بها. وأمام هذا التحدي الذي يربط أهداف دراسة التاريخ بمهارات البحث التاريخي، ويعد الأداة الواضحة والحقيقية في المناهج الدراسية للتاريخ، وتعكس للطلاب المعرفة بأهمية تعلم التاريخ، والفائدة من تعلمه ودراسته. إلى جانب أن البعد الرئيس الذي يتيح للطلاب تكوين الثقافة الواعية التاريخية التي تقف سدًّا وعقبةً ضد أي تلوث ثقافي، وتكسب الطلاب كيفية المحافظة على مكتسبات التاريخ والآثار لديهم، والإحساس بأهميتها والاعتراف بها.
ويتضح مما سبق أن التزود بمهارات البحث التاريخي يعتبر ضرورة تعليمية وتربوية، فيجب الاهتمام بها عند دراسة التاريخ، بشكل يمكّن المتعلمين والمُعلِّمين من امتلاك مهاراتٍ تمكنهم من التعامل مع المادة التاريخية بما يتناسب مع طبيعة دراستهم، فالغاية من وراء البحث في العلم كله.. هي المعرفة وفهم العلاقات، فالتاريخ ليس مجرد ترتيب الحوادث والوقائع زمانيًّا ومكانيًّا، ولكن هدفه الرئيس فهم تلك الحوادث من خلال كشف العلاقات بينها، وتفسيرها، والتعامل مع المادة التاريخية بالنقد، والتحليل، وإداراك الإطار الصحيح لها، والكشف عن حقيقتها وفهم طبيعتها وملابساتها، وإدراك تلك الحقائق بموضوعية، واستخلاص نتائج صادقة وواقعية ومقبولة علميًّا.