كتاب أكاديميا

هديل موسى تكتب : التعليم والمستقبل البائس

هديل1-200x200

 

إذا سألت طفلًا في الخامسة من عمره ماذا تريد أن تصبح في المستقبل فسيجيب بلا شك إما دكتورًا وإما مهندسًا وإما ضابطـًا وإذا سألت طفلة أيضًا فستجيب بلا شك لا أريد أن أصبح سوى طبيبة، ولكن من أين لهم في هذا السن أن يحددوا ما يريدون أن يصبحوه في المستقبل وكيف لمن يسأل ذلك السؤال أن يوجهه لأطفال في مثل عمرهم، أتعلمون إن كانت إجابتهم لا أدري ماذا أريد أن أكون سوف تكون إجابة مطمئنة، فأن يعطل العقل أو أن يتوقف في فترة صغرة إلى أن يبدأ في أن يفكر بطريقة سليمة أفضل بكثير من أن يتربى على مفاهيم خاطئة.

فبلا شك أن الأطفال بنسبة كبيرة يقولون ما يتردد أمامهم وما يسمعونه، وبالتالي ما يقولونه ما هو منتشر في مجتمعهم، ألا وهي كارثة مفاهيم كليات القمة التي أعتبرها وبلا أدنى شك أنها أهم الأسباب بل السبب الأول والأخير لتخلف أية دولة يوجد بها ذلك المفهوم، وهو أن يقتصر تربية عقول الأبناء على أنها إن لم تفلح في مجالين فقط من كل مجالات الحياة فستكون فاشلة ولن تكون مؤثرة في المجتمع أو بالبلدي «مستقبلهم ملوش ملامح» لا أدري من صاحب ذلك الوهم ومن مخترعه الفاشل.

دعونا نتخيل من البداية حدوتة طالب أو نتحدث بصراحة حدوتة الضحية وليس الطالب المصري، فها هو منذ الابتدائية تعلم على أنه إن لم يحفظ ويذهب الدرس للأستاذ فلن يكون متميزًا، ولن يكون من الأوائل، وفي الواقع فهو سيكون من أوائل الحفيظة هو الطالب الذي تعود على أن يركن مخه وتفكيره على جنب، وأن يكتب وينفذ بالأمر كل ما تقوله المدرسة وإلا سيشكون في عقله، أتعرض للجنون ذلك الفتي إنه يجادل! وها هو منذ نعومة أظافره تعلم على أن يكبت أي تفكير وأي إبداع بداخله فإن فكر في مرة أن يجادل ما هو مكتوب سيقال له إنه ما هو مكتوب في كتاب الوزارة، وكأنه الكتاب المقدس، ولا حتى يفكر المدرس بداخل المرسة أن يريح الطالب ويعطي له فرصة للمناقشة بل يرد عليه بتلك الإجابة القاتلة لإعمال العقل.

ومن المصطلحات القاتلة للآمال أيضًا مصطلح «إجابة نموذجية» أي بالنص «زي الكتاب ما بيقول» أي تربيته على أن يأخذ عقل غيره ويحشوه حشوًا داخله، أن يكون مسخًا لأفكار الآخرين لا أن يطلق العنان لفكره ونأتي في آخر المطاف ونسأل: «هو الجيل ده عامل كده ليه»

ونترك كل ذلك الحديث جانبًا ونأتي لنتحدث إلى أسوأ بل أجرم مرحلة في تاريخ حياة الطالب المصري وهي الثانوية العامة، وهو أن يقضي عشرة أشهر «مفعوصًا» سواء من أهله أو من المدرسين أو ممن حوله، ولا يسمع في ذلك الوقت إلا المقولات المصرية العظيمة «اتعب سنة وارتاح عمرك كله»، «عاوزاك تبقي دكتور/ مهندس عشان أتفشخر بيك»، وهنا نأتي لكارثة أخرى، وهو أن التعلم أصبح فقط وسيلة «للفشخرة» ولوضع طبقة اجتماعية مرموقة من حاملي الطب والهندسة.

وتكملة لكارثة المصطلحات التي لا يسمع غيرها الضحية «ذاكر عشان ميبقاش ابن خالتك أحسن منك»، وبعد سنة ستترك فيه شروخًا وإحباطـًا ويأسًا يكفيه عمره كله ستنقسم القضية الآن إلى ثلاث قضايا:

أولها: الطالب العبقري الذي استطاع أن يصل إلى كلية من كليات القمة وهو من يفرح ويملأ الدنيا أغاني لأن مستقبله مضمون، ولكن ما يجب أن يعلموه أن المستقبل بيد الله، فكم من دكتور وعيادته لا يعرفها أحد، وكم من محام ومكتبه مكتظ.

والثانية: هو الطالب المسكين من أصحاب المرحلة الثانية، والذي يمكن أن يكون قد حصل على 96 % ويرى نفسه فاشلًا وتسود الحياة أمام عينييه، ويرى مستقبله مجهولًا وغريبًا ولا يبصر ملامح له.

أما الثالثة: فهو الطالب الحاصل على مجموع جدير بأن يدخله كلية من كليات القمة، ولكنه يفضل كلية أخرى فتتعالي الصرخات والضرب والنواح بل ممكن أن يذهبوا به إلى طبيب نفسي ليتأكدوا من سلامة عقله، أذلك الفتى طبيعي؟ كيف يضرب النعمة بقدميه، ولنقل على سبيل المثال إنه طالب بارع في الكومبيوتر ويريد أن يدخل كلية الحاسبات، وهو معه مجموع هندسه «كيف لك أن تقول ذلك الكلام الفارغ، هي هندسة ما ستدرسه»، وفي هذه اللحظة نخسر مجالين، مجال كان سيبدع فيه، بل لا أبالغ إن قلت سيبتكر، ومجال آخر يكرهه، وممكن أن يتحول من طالب متفوق إلى طالب يرسب، لضياع حلمه.

ويمكن أن نلخص مشكله التعليم بل كارثة التعليم عندنا، هو أن نقتنع بأنه ليس هناك ما يسمي بكليات القمة، وأن القمة هي أن أصنعها بنفسي في كليتي، وفي المجال الذي أرى فيه نفسي وطموحي، فكثير شبهوا التعليم في دول العالم الثالث بمن يريد أن يقنع السمكة بأن تطير وإن لم تطر فهي بالطبع فاشلة، لأن في الطيران القمة على الرغم من أنها إن عامت ستبهرهم.

علينا أن نعلم أن الله قد خلق الكون بمجالات، وعليه فقد خلق كل شخص منا بقدرة وموهبة لتنمية ذلك المجال وتعميره، ولم تخلق الدنيا مجالين فقط وأنا أقسم أن الطلاب المصريين لا يعرفون أين موهبتهم ولا المجال الذي هم متميزون فيه بل إن عرفوه في بعض الأحيان النادرة فهم يحطمونه ويحاولون أن يصطنعوا أنهم من محبي الطب والهندسة.

وإن كنا نحن متميزين جدًا في الطب، فلم المرض في ازدياد؟ وإن كنا مهتمين بالهندسة فلم انتشرت العشوائيات؟

علينا أن نضع كل شيء في مكانه المخصص له، لأني أرى أن عكس ذلك هو معاداة للفطرة، وأن نؤمن بأن لكل شخص موهبته الخاصه به ومجاله الملائم له.

والأهم بل الخلاصة أن المستقبل دائمًا وأبدًا بيد الله، وأن الرضا بقضائه أجمل ما يمكن الشعور به.

 

هديل موسى

ساسه بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock