كتاب أكاديميا

أحمد فتحي يكتب : رصيد الواقع الفكري..

  
 

بالنظر للماضي نستطيع باقل مجهود فكري رسم ملامح المستقبل ومن زاوية اخرى نرى مستوى الركود الثقافي الذي وصلنا اليه ، في الاولى نجد الرأسمالية التكنولوجية احتلت مكانة كبيرة وترسخت بعقولنا واصبح شغلنا الشاغل كيف نواكب العصر وسرعة التقدم التكنولوجي الذي يتطور يوما بعد اخر.
اما الثانية والتي تهتم بالمحتوى الثقافي لعقولنا البشرية نجد اننا في تراجع يوما بعد يوم فمكتسباتنا الثقافية والتنمية الذاتية و قدراتنا الشخصية اصبحت هشة و بسهولة جدا اصبحنا غير ملمين بأدواتنا المعرفية ، التي تضمر بالإهمال حالها حالا اعضاء الجسد ( فكل ما يهمل يضمر) .و بهذا نحن مساقون إلى مصير غير معلوم .

 وقد تكون الصحوة الفكرية و المعرفية لنا في عالم اليوم نتيجة هذه المجابهة الخفية بين أفكار عصر المعلومات والقيم والأخلاق تكاد تكون مجهولة المستقبل .
وبناء على هذا المشهد المُعْتِمٌ ، ليس غريباً أن يصبح موضوع “الثقافة” هو أحد أبرز اهتمامات المفكرين خلال القرنين الماضين. فالإنسان كائن متطور كما أن العالم، بل الكون نفسه، في تطور مستمر، بالتالي فلا بد أن نتساءل عن الفكر البشري وهل يعرف هو الآخر تطوراً مماثلاً؟ هل التطور الثقافي، يختلف عن التطور البيولوجي ؟
قبل الاجابة على التساؤلات قد يكون من المفيد استرجع موضوع التطور الذي شغل الساحة الفكرية خصوصاً منذ منتصف القرن التاسع عشر. ففكرتي التغيير والثبات قد شغلتا الفلاسفة الإغريق. فقال “هيراقليتس” كلمته المشهورة “بأنك لا تستحم في نفس النهر مرتين”. .الكل متغير ، والكل في جديد. ومنذ الثورة الصناعية بأوروبا اخذ التطور شكلا جديدا ، ويمكن أن نفرد هنا مكاناً خاصاً لكل من “ماركس” و “داروين”. فالأول تحدث عن أن ظهور النظام الرأسمالي القائم حينذاك لم يكن سوى مرحلة في تطور النظم الاقتصادية، وإنه إلى زوال، فيما عبر عنه “بالحتمية التاريخية”. وكان ماركس قد أصدر بيانه لعام 1848، مؤكدا أن النظام الاقتصادي قام على أشلاء النظام الإقطاعي، ولسوف يتطور ليتحول إلى الاشتراكية والشيوعية تحت تأثير التطور التكنولوجي وتركز رأس المال.
وبعد هذا أصدر الثاني “داروين” عام “1859” كتابه عن “أصل الأنواع”، مبيناً أن الكائنات الحية تتطور وفقاً لنظريتها في “الانتخاب الطبيعي”. ثم بعدها بمائة عام اكتشف العالمان واطسن و كيرك التركيب العضوي للجينات الوراثية وعرف بالحمض النووي DNA، وكيفية اكتساب الخصائص الوراثية وتطورها. مع هذا الاكتشاف العلمي الأخير أصبح موضوع التطور الوراثي أحد أهم مشاغل المفكرين. ثم أعيد التساؤل بثوب جديد ، هل يوجد تشابه او تقارب بين التطور الثقافي و التطور الوراثي للجينات في العلوم البيولوجية الوراثية؟ 
للإجابة لابد ان نعلم اننا نتحدث عن مجموعة من الأفكار السائدة في المجتمع ،التي تحدد انماط معينة لسلوك الأفراد ، وبما يتميز افرادها عن غيرهم من المجتمعات الاخرى. لهذاعندما نتحدث عن ثقافة مجتمع فإننا نتحدث عن أنماط للسلوك تكونت واستقرت عبر فترات ممتدة ،و تتغير بشكل بطيء ، غير ملموس. فهذا هو ما يحدد هويتنا الثقافية من خلال موروثنا العلمي و الفكري الذي سنتركه للأجيال .
لفهم اعمق حول كيفية انتقال الثقافات و العلوم و الذوق الفني بجميع مجالاته بين الاجيال السابقة كما الجينات ، علينا الاستدلال بنظرية احدى المحدثين ،العالم “ريتشارد دوكنز” بكتابة “الجينات الانانية”. و الذي تتطرق من خلاله الى ان مميزات هذه الجينات اشبه بعملية النسخ ، تعيد نسخ نفسها ذاتيا الى الآلات الجديدة من الاجيال التي تليها .وقد اطلق لهذه الأفكار اصطلاحاً اسماه “دوكنز” “ميم او الميمات” ، بمعنى ان المولود يتعلم من ابوية ومن المجتمع الذي يعيش فيه اللغة ، كما يكتسب من المجتمع قيمه التي تمييزه ، للتفرقة بين ما هو حسن ، وما هو قبيح، وبالمثل فإن مزاجه الفني يتشكل بشكل تلقائي من خلال حياته الاجتماعية، وعلى نفس النهج تتشكل العادات والتقاليد التي تمثل ثقافة كل فرد من المجتمع. هكذا فإن “الميمات” تنتقل من جيل لآخر، مكونة المجتمع حالها حال الصفات الوراثية ومن خلال الجينات.
وبناء على نظرة “دوكنز” فان انتقال “الميمات” بين العائل و الوليد، يمكن أن تخضع لبعض الطفرات ،مما يؤدي إلى التطور ،حال الجينات ، فالأفكار تخضع لطفرات عند الانتقال ،مما يؤدي إلى إحداث نقلة في التطور الثقافي. ومن هنا يظهر التساؤل كيف نحافظ على هويتنا الثقافية للأجيال القادمة؟ و كيف يكون المحتوى المنقول الى الابناء ذو قيمة ثقافية تنموا و تتطور من خلال الانتقال؟
ان انتقال العناصر الثقافية من الاباء يخضع ـ بعض الشيء ـ لحرية التقدير عند المتلقي. وعادة ما يختلف الأمر وفقاً للجو الثقافي العام السائد في المجتمع. وبعبارة أخرى، فإن الوراثة الثقافية تتوقف على البيئة الاجتماعية السائدة. ففي بعض المجتمعات السلطوية المغلقة، والتي تقوم على التربية الصارمة للأبناء وعدم إتاحة الفرصة للجدال والحوار قد تغلب السلطة الأبوية على حرية الآراء، ولهذا قد يكون التأثير الثقافي للأجيال القديمة أكبر وأعمق وأشد جموداً. وعلى العكس فإن المجتمعات التي تقوم على احترام حرية الرأي وتشجيع تعدد الأفكار وحرية المناقشة والنقد، فإن التأثير الثقافي للأجيال القديمة يكون خلاقاً وبما يساعد على مزيد من التنوع لدى الأجيال اللاحقة، و مع قدرة أكبر على الإبداع والابتكار.
وهكذا يتضح أن الجدل السائد حول دور كل من الوراثة والبيئة في السلوك الاجتماعي ، يرتبط أيضاً بطبيعة القيم السائدة في المجتمع. فحيث تسود قيم السلطة والتقيد والخوف من الجديد والغريب، فإن القيم الموروثة لا تقتصر الصفات البيولوجية الموروثة بل قد تمتد أيضاً إلى الخصائص الثقافية القديمة المنقولة عن الآباء والأجداد. وعلى العكس فحين تسود قيم النقد والتجديد والابتكار والمغامرة، فإن المجتمع يكون أقدر على تجديد وتطوير ثقافته الموروثة.
وهنا ايضا تظهر خطورة المحتوى لتعليم في المدارس ومدى اعتمادها على أسلوب الحفظ والذاكرة والاستناد إلى كل ما هو قديم، أو على العكس تشجيعها على تنمية وتطوير القدرات النقدية ،وتعدد الآراء ،وحرية التعبير، واحترام رأي الآخرين. فالأولى أقرب إلى المجتمعات التقليدية الراكدة، والثانية تمثل المجتمعات الديناميكية والمتطورة. ولذلك فإن قضايا التعليم والإعلام وحرية الرأي والنقد هي في مقدمة ضرورات الإصلاح الثقافي.
في النهاية اعلم ان كلماتي لن يتأملها الا الفئة التي ستحدد معالم المستقبل الثقافي لمجتمعنا … ام الاخرون الذي لن يجدوا في كلامي معنى ومغذى ، هم الذي اختصرهم في جملة “هؤلاء المساقون الى المستقبل المجهول” .
 
 

احمد فتحي

كاتب صحفي

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock