د. حليمة ابراهيم الفيلكاوي تكتب: اللطف وتبعاته
قرأت قصة حقيقية وواقعية حدثت في عالمنا اليوم ،قصة في غاية الروعة وأحببت أن اشارككم اياها، لنستفيد منها ونأخذ العبرة والعظة. تقول القصة:
وقف الداعية التركي الشيخ (نعمة الله) يتحدث مع المسلمين في أحد مساجد برلين لمدة ساعتين ثم تساءل: أين غيركم من المسلمين لأذهب إليهم ؟ أجابوه: في الخمارات والملاهي الليلة . قال الشيخ : سأذهب إليهم ، أرسلوا معي دليلاً . وقف الشيخ وسْطهم وحيَّاهم قائلا ً: السلام عليكم أيها المجاهدون .. فبدأ الواحد منهم ينظر إلى الآخر : أين المجاهدون ؟ قال الشيخ : أنتم مجاهدون ؛ لثلاثة اعتبارات : الاعتبار الأول : تحرُّككم ومشيكم ، ورواحكم وغدوُّكم في ألمانيا بأسمائكم الإسلامية : أحمد ، خليل ، إبراهيم .. كل هذا يذكِّر الناس بالإسلام . الاعتبار الثاني : جئتم لألمانيا لكسب الرزق الحلال لآبائكم وأبنائكم ؛ هذا أيضًا جهاد . الاعتبار الثالث :أسلافكم من السلف كانوا مجاهدين ؛ فأنتم أحفاد المجاهدين . ثم أردف الشيخ قائلا : إني قادم من المدينة المنورة وقد أتيت لكم ببشارة من هناك وهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه من “يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة” وإن الله سبحانه وتعالى يأجرني بسببكم. وهنا ردد الجميع (( لا إله إلا الله محمد رسول الله ))، وإني أعظ الناس منذ سنين طويلة في المساجد وكان المفروض أن نزوركم ونبلغكم دعوة الأنبياء الذين كانوا يأتون الناس في نواديهم ويدعونهم لدين الحق. بدأ الجميع بالبكاء والنحيب وهم يرددون: تكلم يا شيخ، اجلس ، يقول الشيخ نعمة الله: الجلوس معناه مشاركتهم في الحرام. على أية حال أنتم الآن من أهل الجنة وسأذهب لآخرين أتحدث إليهم . تكلم يا شيخ إلى متى أتكلم ، أنتم الآن من أهل جنة الآخرة وإني أدعوكم الآن إلى جنة الدنيا (المسجد) ، ولكن يا شيخ كيف نذهب إلى المسجد ومنا من هو جنب؟ أجاب الشيخ : الجنب يغتسل في مكان الاغتسال بالمسجد، نعم الماء بارد ولكن كما قلت إنكم مجاهدون والاغتسال بالماء البارد في الشتاء جهاد . والسكران ؟ الثقيل في السكر يحمله اثنان خفيفان . وبدأ الواحد يشجع الآخر للذهاب إلى المسجد، وهم يرددون: يا إخوان لنذهب إلى المسجد ألسنا مسلمين ؟ وبدأ الشيخ يقود الأربعين رجلاً إلى المسجد ، منهم من دخل المسجد ، ومنهم جلس خارجه ينتظر، والشيخ يقرأ ويترجم: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]. . ومرت الأعوام وتقادمت الأيام وبعد ثلاث سنوات كان الشيخ “نعمة الله” جالساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا برجل تركي بعمامة وجبة ولحية يسلم عليه قائلا ً: هل تعرفني يا شيخ نعمة الله ؟ أجاب الشيخ : كيف لا أعرفك أنا زرت أكثر مدن اوروبا وقراها وربما أنت أحد الأئمة أو المفتين في أحد تلك المدن التي زرتها.. قال الرجل : أنا أعرفك جيداً وأنت لو تبقى ألف سنة لا تعرفني ، أنا آخر سكران في برلين ، خرجت من الخمارة يحملني اثنان وتوجهنا صوب المسجد ، وكنت أنت تشفق علي ، فمسحت رأسي وقلت “أنت غالي عند الله يقبلك في بيته” .. كنت ثملاً ولكني عقلت كلامك ، انتظرت خارج المسجد إلى أن صحوت ، اغتسلت وصليت وتبت إلى الله ، ومنذ ذلك الحين وأنا أداوم على الصلاة والعبادات وزوجتي تحجبت وجئنا إلى العمرة ووفقنا للقائك والحمد لله . ومن الطرائف أنه حينما كان يخاطب رواد موائد المَيسر كان يقول لهم: فيكم صفة الأنبياء والصحابة والأولياء لأنكم مستيقظون حتى ساعة متأخرة من الليل، فيترك الجميع أوراق الميسر، ويصاحب الكثير منهم الشيخ إلى المسجد باكين نادمين.
قصة جميلة ولها مغزى ومعنى عظيم، فالدين الإسلامي دين رحمة، دين يسر لا عسر، فالدعوة الى الله عز وجل بالترغيب لا بالترهيب، ولأننا لا نعلم الغيب ولا نعرف ظروف غيرنا لذلك ليكن كل منا هينا لينا مع من حولك، لا تكن جلادا وقاضيا على غيرك، انما نحن عباد الله عز وجل استخلفنا لعبادته ونصح وارشاد الغير بالحكمة والموعظة الحسنة.
كذلك تربية الأبناء ومعاملة الأزواج مع بعضهم البعض، فلابد أن تسود المحبة والرحمة والألفة بين بعضنا البعض. فاللطف ما كان في شيء الا زانه وما انتزع من شيء الا شانه، ألا تعلم أن أي كلمة اللطف تقع في وسط القرآن في كلمة ” وليتلطف” في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (الكهف: 19). فاللطف من أهم الأمور في توطيد العلاقات الاجتماعية مما يجعلها تستمر وتقوى، وبدون اللطف يصعب استمرار العلاقات الاجتماعية، لأن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى اللطف في كل مراحله العمرية، فالطفل يحتاج إلى اللطف من والديه، والشباب يحتاج إلى اللطف في سن المراهقة حتى يعبر إلى بر الأمام والرشد بسلام، والزوجة أيضا تحتاج إلى اللطف من زوجها، والزوج يحتاج إلى اللطف من زوجته، والأخت تحتاج إلى اللطف من أشقائها وشقيقاتها، والأخ يحتاج إلى اللطف من أخيه الأكبر. وهكذا فإننا عندما نمعن النظر في أهمية اللطف نجده يساهم في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية ويعمل على توطيد أواصر الأخوة والصداقة.
لذلك كله نقول لك: كن لطيفا تسعد وتسعد من حولك.
الدكتورة حليمة ابراهيم الفيلكاوي
أستاذ مشارك كلية التربية الأساسية.
الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب.