أ. غدير السعيد تكتب: كيف تموت المدرسة؟
لفت انتباهي عنوان كتاب وجدته في مكتبة البيت يحمل عنوان ” كيف تموت المدرسة؟ ” فتوقفت وبلحظه مرت أمام عيني الظروف التي لا زلنا نعيشها حتى يومنا هذا تحت ظل جائحة كورونا والتوقف العام الذي يشهده العالم على شتى الأصعدة الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية. عنوان الكتاب صور لي توقف المدارس الذي نشهده الآن سواء طلبة أو معلمين، فلم أقرأ الكتاب ولا أعلم ما يحمله من مواضيع إلا انه أثار فيني ألم فقد الفصول والطلبة والزملاء والعمل والالتزام والشوق إلى كل التفاصيل الجميلة في أبسط يوم عمل.
فبالرغم من توفر حلول بديلة ساهمت في استمرار العملية التعليمية، إلا أن المدرسة الحقيقة قد ماتت فعلاً، ماتت قبل كرونا. بالنسبة لي المدرسة كما كانت أمي دائما تسميها ” بيتنا الثاني”، ونحن كنا نراها “أٌمنا الثانية” فهي ليست مجرد مبنى في أحد الضواحي توزع داخله الفصول والأدراج والمكاتب، كما انها ليست مجرد تجمع لمدرسين وطلبة يحملون حقائب وكتب وكراسات، المدرسة كانت سكن للقيم والمبادئ وغرس لتعاليم الدين، المعلمين كانوا آباء وأمهات حريصين على الأخلاق قبل العلم، والطلبة كانوا شغوفين للتعلم والنجاح وتحقيق الأهداف.
لم تكن الأزمة الحالية التي نشهدها سببا لتوقف المدارس ودورها في العملية التعليمية والتدريسية، بل كانت قد فقدت هذا الدور منذ فترة سابقة من الزمن بطريقة لم تكن واضحة للكل. ويشهد على هذا التوقف غياب القيم وأخلاقيات العمل لدى البعض وليست الكل من المعلمين والتربويين مما ينعكس سلبا على الطلاب والمجتمع بشكل عام. فمثلا تفشي ظاهرة الغش واعتبارها حالة من المساعدة الممزوجة بالعاطفة والرحمة، بحيث أصبح الطلبة يطالبون من باب المساعدة من المعلمين بالتساهل والتغافل تجاه هذا التصرف غير اللائق ديناً وخُلقاً. لقد كانت هذه الظاهرة مستورة خلف كواليس أبواب المدارس والفصول وتحت أنظار المراقبين إلا من يحمل منهم ضمير ودين. ولكن في الظروف الحالية للتعليم الإلكتروني أتيحت الفرص لكشف الضمائر واختبار القيم والمبادئ. لم تتفش حالة الغش بين ليلة وضحاها، بل كانت نتاج لسنوات من التدريب والتأهيل على تلك الممارسة المشينة بكل أطرافها وبدأت فعلاً بالمدارس. أنا أعلم أن البيت هو أول مدرسة للإنسان لكن في الغش أحمل المدرسة والمعلمين والتربويين هذه المسؤولية الكاملة. الغش له تبعات لا حصر لها، ديناً محرم، خلقاً مكروه، عدلاً يحمل ظلم، علماً غير نافع، عملاً فاشل، رحمةً غير عادل. والأسوأ من كل هذا انه خبيث يتفشى بسرعه فائقة دون ظهور آثار واضحة فيضرب بأخلاق مجتمعات كاملة، فهو فعلاً يبدأ داخل فصل وينتهي بدولة كاملة.
هذا هو الوباء الحقيقي الذي لا جرعة ولا تطعيم قادر إلا إيقافه، مرض قديم تحور إلى عدة أمراض وانتشر في الكثير من المؤسسات والوزارات. فالمدرسة هي مصنعه الأول والمعلمين هم أصحاب هذه المصانع. لم ولن يعود الغش على أصحابه بالفوائد، بل زادهم فشل وكسل واتكالية وإلحاح على اختلاق أعذار لا حصر لها. إذا لماذا نسمح به ولماذا لا نسعى إلى إيقافه هو في نظري أول عائق للتطور والارتقاء وانتقاء الأكفاء، يجب أن تخصص له دورات ودراسات ولجان تحد من انتشاره وتعاقب مستخدميه ومن يسمح به. الغش طبيب فاشل ومعلم جاهل ومحامي مجرم وتاجر فاسق فقبل أن توضع الميزانيات لتعمير مباني وتجهيز مكاتب وتطوير مناهج ودعم رواتب يجب أن تخصص جهود مكثفة وعقوبات صارمة لكل أنواع الغش بكل ما يحمله من أشكال. ونقطة البداية هي المدرسة. فحتى لا تموت أخلاق المدارس يجب علينا إعادة انعاشها بحملات تربوية صحية تقضي على تفشي هذا الوباء الخطر الذي انتشر فأمات كل المدارس.
كتبت/ أ. غدير السعيد
الكتاب: كيف تموت المدرسة؟ للمؤلف د. يعقوب الشراح