هل تصبح اللغة المندرينية الصينية لغة المستقبل في أفريقيا؟
على الرغم من التغييرات والتحديات المهمة الناجمة عن العولمة، لا يزال النظام الدولي يعتمد إلى حد كبير على توظيف الدول ذات السيادة القوية لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها.
في سياق السياسة العالمية، تُعرف القوة عادة بأنها: «القدرة على التحكم أو التأثير في الآخرين وتشكيل نتائج الأحداث». وبشكل عام، هناك ثلاث طرق يمكن للدول من خلالها القيام بذلك: 1. الإكراه (استخدام القوة والعقوبات)، 2. الإغراء (استغلال المكافآت المادية والمدفوعات)، 3. الجاذبية (توظيف الموارد المعنوية مثل الثقافة والقيم المحلية).
منذ أواخر التسعينيات، منحت الصين أولوية كبرى للقوة الناعمة في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية. في قلب هذه السياسة تكمن اللغة الصينية، التي تشجع بكين مختلف الشعوب على تعلمها، لتعزيز قوتها الناعمة حول العالم.
اللغة المندرينية.. رأس الحربة في معركة القوة الناعمة الصينية
«التعليم يولد الثقة.. الثقة تولد الأمل.. الأمل يولد السلام»
حين قال الحكيم الصيني كونفوشيوس، هذه الحكمة، قبل نحو 2500 عام، لم يكن يتخيَّل أن الحكومة الصينية التي أحرقت كتبه ولعنت ذكره في سالف الأيام، ستنصبه على رأس جهودها الثقافية الرامية إلى تعزيز قوتها الناعمة حول العالم، باعتباره داعمًا روحيًا لمبادرتها «الحزام والطريق» التي يشارك فيها حتى الآن 126 دولة و29 منظمة دولية.
وبينما تحتفي بكين بوصية النبي محمد بـ«طلب الحكمة ولو بالصين»، كما ورد في الحديث المختلف حول صحته، فإنها لم تنتظر شعوب العالم حتى تطرق أبوابها، بل اختارت «نبي الصين» كونفوشيوس الحكيم، ليكون سفيرًا لحكمتها وتقاليدها، فأطلقت اسمه على مشروعها العملاق لنشر اللغة المندرينية والثقافة الصينية في ربوع الأرض.
لتحقيق هذا الهدف، أنشأت الصين مئات المعاهد والفصول في عشرات الدول حول العالم بهدف تعميم اللغة المندرينية ونشر الثقافة الصينية في كل أنحاء العالم، ودشنت المئات من هذه المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا منذ عام 2004.
بحلول عام 2018، وصل عدد معاهد كونفوشيوس حول العالم إلى 548 معهدًا، وبلغت عدد فصول كونفوشيوس إلى 1193 فصلًا، منتشرة في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات، إلى جانب 5665 موقعًا تعليميًا، تغطي 154 بلدًا ومنطقة.
يُدَرِّس في هذه المؤسسات التعليمية 47 ألف معلم متفرغ وغير متفرغ، من الصين وبلدان أخرى، سواء بشكل مباشر لـ1.86 مليون طالب من مختلف الخلفيات الأكاديمية، أو 810 ألف طالب مسجلين عبر الإنترنت.
في عام 2017 فقط، بعثت بكين حوالي 3500 معلم صيني إلى مختلف أنحاء العالم، إلى جانب أكثر من 6 آلاف متطوع؛ لدعم تدريس اللغة الصينية في معاهد وفصول كونفوشيوس. لكن الأكثر أهمية من وجهة نظر الصين، هو تكوين كادر من المعلمين المحليين المؤهلين لتدريس اللغة الصينية.
«فاعل خير أم مصاص دماء».. هل تُغرِق الصين فقراء العالم بالديون لتسيطر عليهم؟
معاهد وفصول كونفوشيوس في أفريقيا.. مزيج من الإغراء والجاذبية
«إن فهم الصـين لاحتياجاتنا، أفضـل من الفهـم البطيء، والمتغطرس في بعض الأحيان، للمستثمرين الأوروبيين، والمنظمات المانحة، والمنظمات غير الحكومية» *الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد
هذا التصريح الذي أدلى به عبدالله واد في مطلع عام 2008، ينبئ بالكثير؛ فهذا «الفهم الصيني لاحتياجات أفريقيا»، لم يترجم فقط إلى استثمارات وقروض، بل تجسّد أيضًا في إدخال اللغة المندرينية إلى المناهج المدرسية في شرق أفريقيا، ما يعكس تأثير الصين المتزايد في القارة، ويلفت النظر إلى مشاركتها الدؤوبة في تشكيل مستقبلها.
منذ أسست الصين أول معهد كونفوشيوس في أفريقيا داخل جامعة نيروبي الكينية في عام 2005، تسارعت الجهود الثقافية حتى وصل نصيب القارة الآن؛ 27 فصلًا و54 معهدًا، منتشرة على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات إلى جانب مجموعة متنوعة من مؤسسات تعليم اللغة الصينية، ويمكن تتبع توزيعها في ربوع القارة عبر هذه الخريطة.
تنتشر معاهد كونفوشيوس الأربعة والخمسون في حوالي 33 دولة أفريقية، أبرزها جنوب أفريقيا (خمسة معاهد)، وكينيا (أربعة معاهد). ويوجد حوالي 27 فصلًا من صفوف كونفوشيوس في أفريقيا، موزعين على 15 دولة، أبرزها إثيوبيا وجنوب أفريقيا (خمسة فصول لكل منهما)، ومصر (ثلاثة فصول)، وفقًا لمجلس اللغة الصينية (هانبان).
تستخدم الصين مزيجًا من الطريقتين الثانية (الإغراء) والثالثة (الجاذبية) من طرق توظيف القوة المذكورة آنفًا؛ لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها. وحتى الفرص التي تتيحها لطلاب المدارس والجامعات لزيارة الجامعة الشريكة في الصين لمدة أسبوعين، لا تخرج عن هذا الإطار.
وتعمل معاهد كونفوشيوس في جميع أنحاء أفريقيا على تربية «أجيال من متحدثي اللغة المندرينية المؤيدين للصين». ولا أكثر دلالة على تكامل الأهداف الاستراتيجية الصينية من انتشار 153 معهد كونفوشيوس و149 فصل كونفوشيوس في المدارس الابتدائية والثانوية في 54 بلدًا مشاركًا في مبادرة الحزام والطريق.
مصلحة متبادلة.. اللغة الصينية لغة «قادة مستقبل» أفريقيا
تعلم الصين أنها ستجني فوائد استراتيجية كبيرة من وراء هذا النهج «الناعم»، لذلك لا تكتفي بمليارات الدولارات التي قدمتها قروضًا إلى كينيا، ولا تتوقف عند حد تشجيع شركاتها على بناء كل شيء في الدولة الواقعة في شرق أفريقيا من الطرق السريعة إلى الشقق السكنية، بل تحرص إلى جانب ذلك على تنظيم المهرجانات الثقافية الكبرى، وزرع لغتها في عقول وقلوب «قادة المستقبل» إن صح التعبير.
هذه الرؤية «المصلحيّة»، كانت حاضرة بجلاء حين أعلن معهد تطوير المناهج في كينيا (KICD) في يناير (كانون الثاني) 2019 أن اللغة المندرينية سوف تصبح مادة اختيارية في المدارس الابتدائية بحلول عام 2020، باعتبارها «محاولة لتحسين التنافسية الوظيفية، وتسهيل التجارة وتحسين التواصل، وتعميق العلاقات السياسية والاقتصادية مع الصين».
وكم كان رئيس معهد تطوير المناهج، يوليوس خوان، فخورًا وهو يتحدث لـ«وكالة أنباء شينخوا» الصينية، عن تمكُّن تلاميذ المدارس الابتدائية في بلاده، بدءًا من الصف الرابع (10 سنوات) فصاعدًا، من الالتحاق بهذه الفصول اللغوية.
ولولا ارتفاع مكانة الصين على صعيد الاقتصاد العالمي، لما أكد السيد يوليوس خوان على أن «كينيا ستستفيد إذا استطاع مواطنوها فهم اللغة المندرينية»، وهو أفضل من يعرف أهداف كينيا المتمثلة في «تحسين جودة التعليم، والتركيز على المهارات التي من شأنها أن تجعل الخريجين أكثر تأهيلًا لسوق العمل».
في الواقع، كانت الصين أكثر حرصًا من المسؤولين الذين تباحثوا المقترح في نيروبي، إذ سارعت إلى تقديم يد العون على مدى السنوات الماضية؛ فأرسلت وفدًا من العلماء الصينيين للمساعدة في تطوير الدورات التعليمية، وقدمت منحًا دراسية لطلاب الدراسات العليا في كينيا للدراسة في الجامعات الصينية.
وليست كينيا بدعًا من الدول الأفريقية في هذا المجال، بل هناك جنوب أفريقيا التي بدأت في تدريس اللغة المندرينية في مدارسها منذ عام 2014، وأوغندا التي تخطط لجعل اللغة المندرينية لغة دراسية إلزامية على طلاب المدارس الثانوية، إلى جانب تنزانيا ورواندا وزيمبابوي، التي تحذو الحذو ذاته، والقوس مفتوح.
يتكرر هذا النهج، مع فروق طفيفة، في مختلف أنحاء أفريقيا؛ فبعدما أصبحت اللغة الصينية تدرس في ست مدارس ثانوية عامة وفي مختلف جامعات رواندا، أكد مدير معهد كونفوشيوس في رواندا، تشانغ شيان، أنه: «لن يندم الروانديون، خاصة الشباب الذين اختاروا تعلم اللغة الصينية، على الاختيار الذي اتخذوه؛ إذ ينتظرهم عدد هائل من الفرص؛ لتحسين سبل عيشهم، فضلًا عن دفع اقتصاد بلدهم سريعًا إلى الأمام».
ولتصبح الجاذبية أكثر بريقًا؛ أضاف: «أصبح عدد سكان الصين الآن ضخمًا للغاية في جميع أنحاء العالم، وهناك العديد من الشركات الصينية في العديد من البلدان في مختلف أنحاء العالم، لذا يمكن لأي شخص يتقن اللغة الصينية أن يعمل مع الشعب الصيني ليس فقط في رواندا ولكن أيضًا في أوغندا وبوروندي وشرق أفريقيا، وأوروبا وأمريكا وأستراليا».
ورغم أن اللغة الصينية من أصعب اللغات في العالم، حرص مدير معهد كونفوشيوس في رواندا على طمأنة الطلاب الأفارقة بأن «إتقان اللغة الصينية لا يتطلب الكثير، بل بإمكان الشخص في غضون نصف عام أو سنة، إذا توافرت لديه الرغبة في المعرفة، أن يصبح على دراية بتلك اللغة».
الإقبال على تعلم اللغة الصينية.. هل يحتاج إلى تشجيع بكين؟
حتى من دون تشجيع بكين، فإن الحوافز لدراسة اللغة الصينية كبيرة بالفعل؛ إذ أنها اللغة الأكثر استخدامًا على مستوى العالم، إذ تبدو اللغتين الإسبانية والإنجليزية إلى جانبها كالقزمين، مع فارق يتجاوز نصف مليار متحدث، لذلك فإن القدرة على التواصل بالمندرينية توفر المزيد من فرص العمل، والرواتب المرتفعة.
ونظرًا للأهمية المتزايدة التي تكتسبها هذه اللغة في مجال الأعمال، ليس فقط في الصين ولكن أيضًا في دول آسيوية أخرى، تسعى العائلات الثرية والملكية لتعليم أولادهم المندرينية، إلى جانب اللغة الإنجليزية والفرنسية. مثل: تايلاند وسنغافورة وإندونيسيا وماليزيا.
لذلك يحرص مؤسس «شركة أمازون» جيف بيزوس وزوجته ماكينزي على تعليمها لأولادهما الأربعة، كما تَعَلَّمها مؤسس شركة «فيسبوك» مارك زوكربيرج، بتشجيع زوجته بريسيلا تشان، وهي نجلة لاجئ صيني، وكان من الطبيعي أن تنتقل عدوى التعلم لطفلتهما ماكس.
كذلك عيّنت إيفانكا ترامب وزوجها جاريد كوشنر مربية تتحدث اللغة المندرينية؛ لمساعدة أطفالهما الثلاثة للتعرف على هذه اللغة عن قرب. ويرتاد الأمير جورج الطفل البكر لدوق ودوقة كامبريدج الأمير ويليام وكيت ميدلتون مدرسة في العاصمة لندن حيث يتعلّم اللغة المندرينية.
ويبلغ عدد معاهد كونفوشيوس في الولايات المتحدة (110 معهد) ضعف العدد الموجودة في أفريقيا كلها (54 معهدًا). ووفقًا لمسح أجرته جمعية آسيا، زاد عدد المدارس الحكومية الأمريكية التي تدرس اللغة الصينية في مناهجها بأكثر من 200% بين عامي 2004 و2008.
ومن المتوقع أن تصبح اللغة الصينية هي اللغة الأكثر استخدامًا على الإنترنت، إن لم يكن يحدث بالفعل، فيما يشدد عمالقة شبكة الإنترنت الصينيين، مثل علي بابا وتينسنت، قبضتهم على التجارة عبر الإنترنت. وعلى الرغم من أن غالبية المتحدثين بالصينية ما زالوا يتركزون في البر الرئيسي، فإن معرفة اللغة الصينية تتيح الدخول إلى أسواق أخرى في ربوع آسيا.
كما أن بناء جسر لغوي يمتد إلى بقية أنحاء العالم له مزايا أخرى جلية؛ إذ يشجع السياحة، ويسهل الأعمال، ويساعد في تدفق المعلومات عبر منصات مهمة مثل المجلات الأكاديمية، كما يبني أيضًا إحساسًا بالود الذي يجذب المواهب الأجنبية، ويلمع الصورة الوطنية.
وتتجنب هذه المعاهد التطرق إلى التاريخ السياسي الصيني، وتتجاهل طبعًا انتهاكات حقوق الإنسان، وتربي جيلًا كاملًا من الطلاب على الرواية الرسمية التي يروج لها النظام الصيني.
المصدر: ساسه بوست