قسم السلايدشوكتاب أكاديميا

فن انتقاء ورواية قصص الأطفال|بقلم أ.د. بدر محمد ملك

رافقتنا قصص الأمهات، وحكايات الكبار منذ نعومة أظفارنا، وكانت بحق أثمن لحظات الحياة يشدنا الحنين إليها رغم بساطتها. ولقد عشنا في كنف القصص نرمق أحداثها الشائكة تارة، والشائقة والمضحكة تارة أخرى. لقد تابعنا بنهم تصاعد وقائع الروايات نرتوي منها وقد نتقمص شخصياتها، وكنا نترقب نهاية كل حبكة، ونتطلع لانفراج الأزمة دون توجس يرهق أذهاننا. بالتأكيد نسينا الكثير من تفاصيل القبض والبسط في مطاوي تلك القصص لكنها -بطريقة أو أخرى- ومع مرور الوقت غذت برحيقها طموحاتنا وخيالنا، وصبغت آدابنا وأخلاقنا، وصقلت عقولنا وأذواقنا، ونمت مواهبنا واهتماماتنا، وآنست أرواحنا وأفئدتنا.
من الغريب حقا أن الطفل لا يمل من تكرار الحكاية الجميلة التي تستهوي فؤاده، فيطير على متن أجنحتها محلقا في فضاءات الخيال، متجاوزا طوق الزمن؛ متمردا على الحدود الجغرافية. إن أدب الأطفال (children’s literature) بوابة للتعلم التدبري، وتهذيب الأخلاق، وتزجية الوقت، وغرس القيم النظرية والعملية، وفهم شؤون الحياة. إن الإنسان كائن اجتماعي يجد في القصص الماتعة طاقة تحرر عقله وخياله وأحاسيسه وجوارحه من المعوقات المانعة من تدفق أنهار الخيرات الساكنة في أعماقه. وعبر الاقتران بسحر الحكايات، وسلطان “الحزايات” نفتح أبواب الأمل كي ينتصر الإنسان المخلص المتسلح بالقيم النبيلة لمواجهة نوائب الدهر، ومعالجة الغرور البشري كي لا يطغى ويشقى. إن الحكايات المطعمة بالحكمة تعطينا قيمة لحياتنا إذ تمدنا بنصائح ثمينة، ومعلومات ثرية، ومشاعر فياضه، وتجارب معيشية نفيسة. ومن هنا اهتم المربون في كل العصور بصناعة القصص والتفنن في انتاجها بصفة دائمة. والأدب الإنساني يفيض بروائع عالمية تشهد بأن صناعة القصة من وسائل انماء الشخصية القوية المتزنة الواعية الحصيفة. ولأن التكنولوجيا الحديثة والقصص المصورة والسينمائية من شأنها الارتقاء بصناعة القصص توجهت الأنظار اليوم نحو هذا الميدان التقني الذي يزيد الفنون توهجا وتشويقا وتجديدا.
بدأتُ في دراسة وكتابة وتدريس القصص منذ أكثر من ربع قرن ولا زلت أشعر بهيبة هذا الحقل المدهش الجذاب الذي لا تنتهي أسراره ومداخله، ولا تنقضي عجائبه وجمالياته. بناء على رحلتي الأكاديمية أعتقد أن القصص من أقوى أدوات التثقيف والترويح والتأثير وأننا لازلنا في بداية هذا المشوار لا سيما في توظيف الشعر والمسرح والموسيقى والتقنية الحديثة لغرس القيم التربوية الأصيلة والعصرية في قصص الأطفال. ليس من السهل اتقان أساليب رواية وكتابة القصة من المنظور الفني والتربوي لأنها تعتمد على مجموعة مواهب في السرد، واستقطاب المثيرات، وإدارة الحوارات وغرس المفاهيم, واستنطاق الماضي السحيق. وفي هذا المقام من الجميل التذكير بأن لكل عصر ذوقه ورونقه كما أن لكل فرد مداخله الفاتنة، واهتماماته الأخاذة، وعوالمه الذاتية. كتب ارنست همنغواي صاحب رواية “العجوز والبحر”: “إن مجرد قص القصة البسيطة تعتبر من أصعب الأشياء الموجوده في العالم”.
وتنقسم القصة عموما إلى أقسام كثيرة منها القصة التاريخية، والدينية، والخيالية والبوليسية، والعلمية، والشعبية، والوطنية والأسطورية والرمزية والخيالية المتعلقة بعالم الحيوان والفضاء وجميعها تلتف حول فكرة تخصيب الذهن، وامتاع السامع والترويح عنه، والتواصل معه بقالب فني محبب للنفوس والعقول. ولقد برع في دنيا القصة عدد من المربين، وجمهرة من الفلاسفة عبر القرون وفي جميع الثقافات فظهرت ابداعات اليوناني الرائع: إيسوب، وتجلت اسهامات الفيلسوف المسلم ابن الطفيل، وباتت قصص ألف ليلة وليلة محط أنظار العالم، ونالت قصة البؤساء للفرنسي فكتور هيجو استحسان القراء، وسجل المؤرخون دور “التُروبَادُور” في رواية القصص في العصور الوسطى، وقدم عبدالتواب يوسف أضخم مكتبة للطفل العربي المعاصر.
ومن المعلوم أن القصص وسيلة تعليمية فريدة إذا استطعنا اختيار الوقت السليم لرواية القصة التي تخدم الفكرة المراد ترسيخها للفئة المستهدفة. وفيما يلي مجموعة توجيهات يتعين الانتباه لها، والتذكير بها لتحقيق أكبر قدر من الفائدة والمتعة في تثقيف الأبناء عبر بوابة رواية القصة:
1. انتقاء نوعية القصة القادرة على الارتقاء بفهم الأبناء والبنات، وتراعي بيئتهم وتلبي احتياجاتهم العمرية، وتعالج مشكلاهم النفسية والمجتمعية.
2. التحضير لرواية القصة، واستحضار دقائقها، وتحسين مهارات الاتصال وتشذيب أسلوب الالقاء، فالقصة مهما كانت متقنة فإنها تعتمد بدرجة كبيرة على جمال أسلوب سرد سياقاتها وقص مآلاتها.
3. العناية بالمفردات الغامضة والمفتاحية وتقريبها لأذهان الأطفال وإلا فقدت القصة مقاصدها وأصبحت صعبة الفهم، عصية على المتابعة. القصة الجيدة في فكرتها وحبكتها وأحداثها وشخصياتها تتضمن العديد من المفردات الرصينة، وتزيد الذكاء اللغوي.
4. من مقومات القصة الاثارة وجذب الاهتمام وترغيب السامع بحب الاستكشاف، وتقبل الذات، والاجتهاد، والشغف بالمعرفة وهذه غايات بالغة الأهمية فحب التعلم من ركائز التربية السديدة.
5. من الأهمية بمكان اشراك الطفل أحيانا في بعض سياقات القصة بحيث يعلق على حدث من أحداثها، أو يتنبأ بنهايتها، أو يردد عبارة من العبارات، أو يناقش المضامين التربوية المبثوثة في القصة بعد الانتهاء من سماعها.
6. ينبغي الابتعاد عن اشعال الفتن، والامتناع عن تغذية الأحقاد والصراعات الدينية والاجتماعية والمذهبية والعرقية فالقصة التربوية -على العكس- سفينة لشحن المشاعر الفاضلة، وترسيخ القيم الإنسانية المشتركة.
7. تفقد القصة المليئة بالنصائح قيمتها الجمالية وتتحول في الغالب إلى موعظة جافة قائمة على التلقين فتنفر الأطفال. القصة أداة تثقيف فذة في أحشائها فقه وفلسفة أساسهما الاقناع والاختيار والرغبة لا الاخضاع والاجبار والرهبة.
8. المعلم الناجح لديه مصادر عديدة لانتقاء قصصه، وبناء حصصه، وترصيع كلامه. تقدم مجلة العربي، ومجلة الوعي الإسلامي، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وكونا، ومركز البحوث والدراسات الكويتية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني مجموعات قصصية عالية الجودة، ورفيعة المستوى لا يستغني عنها المربون في رفد مكتبة الأسرة والمدرسة والمسجد.
9. يتعين على الراوي الاقتصاد في الوقت والاعتدال في رواية القصة لأن الاطالة تجلب الملل والضيق مهما كانت القصص المختارة لطيفة المعاني وجميلة المباني.
10. ينبغي التركيز على إن البطولات والإنجازات والتوفيق من نصيب أصحاب الإيمان الراسخ، والعمل الصالح، والهمة العالية، ومكارم الأخلاق، والفكر المستنير.
11. تشكل البطولات الوطنية من وحي ومضات الماضي، ونبضات الحاضر ذخيرة ثمينة لتربية الناشئة على الفضائل والتضحية والأمانة ومهارات الحياة. ولا ريب أن رواية القصص الحقيقية من واقع الفتيان والفتيات ذات آثار إيجابية إذ تحض النفوس على الاقناع، واقتفاء الأثر والوعي بقضايا المجتمع.
12. استثمار الصور والأفلام والأصوات والابداعات التكنولوجية في ابهار السامع والمشاهد أمر له أهمية فائقة، ولكن يجب الحذر من الإفراط في اقحام التقنية في كل جزئية. إن الاعتماد المطلق على التقنيات الحديثة عجز وتقليل للمشاعر والابداعات الإنسانية المرهفة القائمة على سعة الخيال وحب الاستكشاف وتنوع الأفهام والتواصل الشفهي.
13. القصاص المتمرس هو القادر على استثارة الحس والفكر والوجدان، ودفع الإنسان نحو التأمل والتدبر بما يخدم الواقع ويرتقي بالإنسان.
14. خير القصص العصرية هي التي تعمل على ترسيخ الأخلاق المدنية؛ احترام هوية المجتمع وقيمه وقوانينه، وتعمل على بث الأمن والسلام والمواطنة العالمية، وتمكين المرأة، واحترام التعددية، واعمال العقل، وحل المشكلات، وتقدير المشاركة المجتمعية، والحفاظ على البيئة، والنهج الديمقراطي، والتواصل الحضاري، وانصاف الأقليات، ومناصرة حقوق المعاقين، وحماية حقوق الطفل، والاقبال على العلوم والفنون والآداب والمهن اليدوية، واعلاء شأن كرامة الإنسان، الأمل والتسلح بالسعي لبناء مستقبل زاهر.
15. يحتاج الطفل -بحسب عمره وميوله- للقصة ذات المضامين القيمية المبنية على الجمل القصيرة، والعبارات الواضحة، والصوت المواكب لسياق القصة إلى أن يعشق القراءة وحينئذ هنيئا له رؤية الأمطار وتفتح الأزهار ومتعة فوق الوصف.
16. حضور الأمسيات القصصية والفعاليات التربوية من طرائق العثور على تقنيات القصة الناجحة والتمكن من مهاراتها، واتقان فنونها وتبادل الخبرات.
قبل أن يجاوز الإنسان الأرض ليصل القمر كان الفرنسي جول فيرن في نهاية القرن التاسع عشر يمتطي صهوة القصة واصفا محاولات الإنسان للهبوط على سطح القمر فهل ننجح في توظيف القصة للارتقاء بأطفالنا لتحقيق آمالهم الرحبة، وتجديد آفاقهم الفسيحة؟

بقلم|

أ.د. بدر محمد ملك

أستاذ دكتور بكلية التربية الأساسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock