كتاب أكاديميا

أ. باسمة التويجري تكتب: شعر الغربة للبارودي

                    شعر الغربة للبارودي          

نفي الثَّائرالشاعر محمود البارودي إلى سَرَنْديب سبعة عشر عامًا وقتَ أُغلقَت أبواب الوطن في وجهه ظلمًا فصرخ: “لم أقترف ذنبًا“. تساءل عما إذا كان الدِّفاع عن الوطن ذنبًا يُعاقَب المرء عليه وما أجيب إلا بالإبعاد وما اقتنع. فالقضية الّتي آمن بها وعمل مِن أجلها قضية دفاع عن وطن تدخل فيه الأجنبي بشكل سافر:

راجعْتُ فِهْرِسَ آثاري فما لَمَحَتْ

بصيرتي فيه ما يُزري بأَعمالي

ولما كانت القضية قضية ظلم، فإن شاعرنا يتألم غاية الألم، فتمضي الأيام والشّهور والسّنوات، وتتدهور صحته، ويكاد الشّوق والشّعور بالاضطهاد يقضي عليه.

تتالت عليه المصائب وكان أكبرها الضّعف النّاتج عن الشّيخوخة، فيخف نظره وسمعه وتوهن أعصابه، فيتوجع منه القلب والجسد معًا:

كيفَ لا أنْدُبُ الشّباب وقد أصبحْتُ كهْلاً في مِحْنةٍ واغترابِ

أخلَقَ الشّيبُ جِدَّتي وكَسَاني خِلْعَةً منه رَثَّةَ الجِلبابِ

لا أرى الشَّيءَ حينَ يسنَحُ إِلا كخيالٍ كأَنَّني في ضبابِ

وإذا ما دُعيتُ حِرْتُ كأنِّي أسمعُ الصَّوتَ مِن وراءِ حجابِ

كلَّما رُمْتُ نهضةً أقعدَتْني وَنْيَةٌ لا تُقِلُّها أَعْصابي

تلك الصّورة النّاطقة المتحركة لكهل يعاني مِن تراجع قوة الجسد عضوًا فعضوًا يدعمها بصورة أخرى يصور فيها نفسه يشبه فرخ طير صغير ضعيف لا حول له ولا قوة:

أُزَيْغِبَ الرَّأسِ لم يَبْدُ الشَّكيرُ به  ولم يصُنْ نفسَهُ مِن كيدِ مُغتالِ

الفرخ الّذي كان نسرًا هدّته الأيام وطحنته المحنة وأوجعه الاغتراب، فما عاد يقدر على حمل قلمه هو الّذي طالما كتب بغزارة وحارب ببسالة أيام الشّباب:

ولا تكادُ يدي تُجري شبا قلَمي وكانَ طوعَ بناني كلُّ عَسَّالِ

أما وقد اجتاحته الشّيخوخة وحُكم عليه بالنّفي، فهو يصف حاله بعيدًا مُضَّطَهدًا مظلومًا ومتشوقًا:

لكلِّ دمعٍ مِنْ مُقلة سببُ

وكيف يملِكُ دمعَ العينِ مُكتئِبُ

لولا مكابدةُ الأشواقِ ما دَمِعَتْ

عينٌ ولا باتَ قلبٌ في الحشا يجِبُ

لكنه رغم الأسباب القوية يحاول أن يتمالك نفسه فلا تُرى دموعُه جارية وهو الّذي كان له تاريخ مِن الشَّجاعة والبأس والقوة:

أستنجدُ الزَّفَرات وهي لوافحٌ وأُسَفِّهُ العَبَراتِ وهي بَوادي  

يحاول أن يتمالك:

أَكُفُّ غَرْبَ دموعي وهي جاريةُ

خوفَ الرَّقيبِ وقلبي جِدُّ مُلتاعِ  

وعندما يحل الظَّلام وتغفو عين الرقيب، يخلد إلى البكاء المصحوب بالوجع:

أبِيتُ أَرْعى الدُّجى بعينٍ

غذاؤُها مَدْمَعٌ وسُهْدُ

وهو في سَرَنْديب حزين ساهر أرق:

أَبيتُ حَزينًا في “سَرَنْديب” ساهرًا

طوالَ اللَّيالي والخَلِيّون هُجَّدُ

أحاولُ ما لا أستطيعُ طِلابَهُ

كذا النّفسُ تهوى غيرَ ما تملكُ اليدُ

هو في سَرَنْديب غريبٌ، بائسٌ، ساهرٌ، أرِقٌ:

أظلُّ فيها غريبَ الدَّارِ مبتئسًا

نابي المضاجع مِنْ هَمٍّ وأوْجاعِ

هو في سَرَنْديب يعاني كل ما يمكن للمرء أن يعاني:

شوقٌ ونأيٌ وتبريحٌ ومعتبةٌ

يا لَلْحَميَّةِ مِن غَدري وإِهمالي

إن الغربة في سَرَنْديب غربتان: بُعد عن وطن وبُعد عن خل وصديق ورفيق يخفف وحدته ومعاناته:

لا في “سَرَنْديب” خِلٌّ أسْتعينُ به

على الهمومِ إذا هاجَتْ ولا راعي

فالصَّديق حاجة ملحة، فهو وطنٌ حين لا يكون الوطن موجودًا، فماذا لو لم يكونا موجودين معًا؟

لا في “سَرَنْديبَ” لي خِلٌّ ألوذُ به

ولا أنيسٌ سوى همِّي وإطراقي

يصرخ وهو يعرف أهمية ما يفتقد إليه مِن هذا اللَّوذ وهذا اللّجوء وهذه الاستعانة وهذا البوح الّذي يحتاج إلى أن يبوحه فلا يجد شيئًا مما يطلب، فيعتكف ويعود إلى ذاته منهزمًا وقد زادت مواجعه، فيتحدث إلى أوراقه ويبكي ليلاً: يبكي دمعًا وحبرًا:

لا في “سَرَنْديبَ” لي إلفٌ أُجاذِبُه

فضْلَ الحديثِ ولا خِلُّ فيرعَى لي

إنه يعيش القحل والغربة في أبهى مشاهدهما ويعيش الوجع في أدق تفاصيله؛ فالإبعاد جرح والظُّلم جرح والغربة جرح والشّيخوخة جرح، والوطن هو: الجرح الأكبر.

إن الملاحظ في صورة الوطن عند شاعرنا أنها صورة مشرقة رغم كلِّ الآلام الّتي يعانيها، إذ لم تستطع كل هذه الجروح أن تلون الصُّورة بالدَّم القاني المتدفق من الجرح المفتوح، بل ظلت صورة مشمسة متفائلة، فالوطن عند شاعرنا هو وطن الذَّاكرة التي تفجرت بالبعد والغربة.

الوطن مرتبط بأيام القوة والفتوة أيضًا:

بلادٌ بها حلَّ الشّبابُ تمائمي  

وناطَ نجادُ المَشْرِفِيِّ بعاتقي

فالوطن هو أرض الطّفولة وأرض النّشأة الأولى الّتي لا تلبث أن تسلِّم المرء إلى النَّشأة الثّانية أو نشأة الشّباب وقتَ كان شباب شاعرنا مليئًا بالبطولات والحروب المشرِّفة:

ما إنْ خلعْتُ بها سُيُورَ تَمائمي

حتَّى لَبِسْتُ بها حَمَائلَ مِخْذَمي  

ويعود ليحدد معنى الوطن، فهو يعني إلى جانب المراحل الّتي نشأ فيها وشب كل ما يرتبط به من شجاعة وفروسية وحياة أسرية وعلمية:

هو مَرْمَى نَبْلي ومَلْعَبُ خَيلي

وَحِمَى أُسْرَتي ومركزُ بَنْدي

هو يعني الجيرة والقوم والآداب والأعراق:

مَرعى جِيادي ومَأوى جِيرتي وحِمى

قَوْمي ومَنْبِتُ آدابي وأَعْراقي

ويؤكد البارودي على كرم الأهل المتروكين جبرًا في الوطن إذ يؤكد على روابطه القوية بهم:

وكيفَ أنْسى دِيارًا قد تركْتُ بها

أهلاً كرامًا لهم وُدِّي وإِشْفَافي

 

لا ينسى:

تركْتُ بها أهلاً كرامًا وجيرةً

لهم جيرةٌ تعتادُني كلَّ شارقِ

إنه، يفتقد في الوطن: الإلفة الّتي يشكل مجموع ما ذكره منها طمأنينة لقلبه وسعادة، انظر إلى كلمات النَّعيم في حديثه عنه:

منازل ُكلَّما لاحَتْ مَخَايلُها

في صفحةِ الفكرِ منِّي هاجَني الطَّرَب  

وانظر إلى كلماته المشرقة عن الوطن الذاكرة:

ديارٌ يعيشُ المرءُ فيها منعَّمًا

وأطيبُ أرضِ اللهِ حيثُ يُعاشُ  

الوطن يرتبط بالسَّعادة الّتي هي عكس حاله في غربته في سرنديبَ؛ لذا يستدعيه فنتخيله باسمًا وهو يكتب عنه مستنبطاً صفاته:

لبَّيْكَ يا داعيَ الأشواقِ مِنْ داعي

أسمعْتَ قلبي وإِنْ أخطأْتَ أَسْمَاعي

مُرْني بما شئتَ أَبلُغْ كلَّ ما وصلَتْ

يدي إليه فإني سامعٌ واعي

منازلُ كنْتُ منْها في بُلْهَنِيَةٍ

مُمَتَّعًا بين غِلماني وأَتْبَاعي  

وقد صار إلى ما لم يكن إليه فيه، فما مِن أتباع في هذه الغربة ولا مِن غلمان ولا مِن أهل ولا مِن جيرة ولا مِن هوى.

إنها الغربة الّتي يحاول شاعرنا بنفس إيجابية رغم كل الضُّغوط أن يجد له منها منفذًا ما يخترق فيه جدارها المرتفع عاليًا في وجهه مانعًا إياه مِن نسمات الهواء الآتية مِن مزيج مشاعره الطّيبة الّتي يحافظ عليها فيسوِّرها ويبقيها في الذَّاكرة وطناً.

 

إعداد| أ. باسمة التويجري

عضو هيئة تدريب

المعهد العالي للخدمات الإدارية

 

 

                       

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock