«جدلية العِرق والذكاء».. هل تنتقل القدرات الذهنية عبر الجينات؟
ليس الناس في نهاية المطاف إلا مركبات -معابر- للجينات. إنها تركبنا حتى الاستنزاف مثل أحصنة السباق من جيل إلى جيل. لا تفكر الجينات ما الخير وما الشر. لا تعنى بكوننا سعداء أم تعساء. نحن بالنسبة لها مجرد وسيلة نحو غاية. وهي لا تفكر إلا فيما يجعلها أكثر كفاءة. *هاروكي موراكامي في رواية 1Q84.
مؤخرًا، قام جيمس واطسون أحد مكتشفي تركيب الحمض النووي «اللولب المزدوج»، أحد أهم الاكتشافات العلمية على الإطلاق، وهو في الخامسة والعشرين من عمره وحاز بسببه على جائزة نوبل مناصفةً مع فرانسيس كريك بعدما عملا سويًا في اكتشاف تركيب الحمض النووي؛ بإلقاء تعليق وُصف بـ«العنصري» و«غير العلمي»، وتسبب في تجريده من ألقابه العلمية، إذ ذكر أن هناك فرق في متوسط نتائج اختبارات معدل الذكاء الـ«IQ» بين ذوي البشرة السوداء والبيضاء، ومُرجعًا ذلك لأسباب جينية. وعلى إثر تلك التصريحات، قطع معهد «كولد سبرينج هاربور» علاقته بواطسون البالغ من العمر 90 عامًا بعدما قد قضى سنوات طويلة في العمل به.
جيمس واطسون إلى اليمين وفرانسيس كريك. المصدر
واطسون أيضًا كان قد اتُهم بالتمييز الجنسي، حين صرّح في عام 1997 بأنه يجب إجهاض الأجنة التي تحمل جينات مثلية، وصرّح عام 2003 في وثائقي بعنوان «DNA» إنه «سيكون من الرائع لو أصبحت كل الفتيات جميلات»، تلك العبارة التي تبدو مرعبة إذا خرجت من عالم أحياء جزيئية. وفي الوثائقي نفسه قال بأن «الغباء مرض ويجب إزالته». وفي لقاء أجري معه في عام 2007 تساءل «لماذا لا يصبح كل الناس أذكياء مثل يهود الأشكناز؟»، قبل أن يقول مؤخرًا بأن الذكاء يحمل جينات بيضاء.
ما هو الذكاء وكيف يُقاس؟
إذا نحينّا تصريحات واطسون جانبًا، وسألنا ما هو الذكاء وكيف يُقاس؟ فسنبدأ بحقيقة أنه لا يوجد اختبار مباشر يقيس القدرات العقلية؛ فاختبارات الـ«IQ» تقيس مهارات إدراكية محددة، مثل: حجم الحصيلة اللغوية، والقدرة على قراءة القطع الفهمية، والقدرة على الربط والاستدلال. لكن ماذا عن الطبيعة؟ هل نولد أذكياء أو أغبياء؟ وهل هناك عناصر مؤثرة متغيرة أم ثابتة؟
لأكثر من قرن كانت اختبارات الذكاء تتم عن طريق طرح هذه الأسئلة، وتتضمن تخيّل وجود شكل ما، وطلب إكمال نموذج، ثم الضغط على زر حين ظهور كلمات معينة. وكانت النتائج تختلف بالطبع تبعًا لعقليات المشتركين، لكن في المجمل كان من يحصل على نتيجة أقل في أحد أقسام الاختبار، يحصل على نتيجة ضئيلة في الأقسام الأخرى، أي أن النتائج مترابطة مع بعضها البعض الأمر الذي يفيد بوجود عامل أساسي لذلك، وعلاوة على ذلك فهي تثبت تقريبًا في سن الثامنة.
وقد أثبتت دراسات التوائم والأبناء المتبناة أن الجينات لها دور قوي في تحديد القدرات العقلية؛ فنتائج التوائم الذين يشتركون في نفس الجينات والظروف البيئية متقاربة أكثر من الأشقاء العاديين الذين يشتركون في نصف الجينات فقط، في حين أن نتائج الأشقاء مترابطة أكثر من الأبناء المتبناة والذين يشتركون في الظروف البيئية.
ثم قدّم فريق من علماء أوروبيين وأمريكيين دراسة تفيد بارتباط 52 جين بالذكاء، عند ما يقرب من 800 ألف شخص، ولكن هذه الجينات لا تحدد الذكاء بعينه، ويظل تأثيرها المشترك ضئيلًا. ولكن يرجّح الباحثون أن هناك المزيد من الجينات والتي تقدّر بالآلاف مرتبطة بالذكاء، وهي بالقدر نفسه من الأهمية التي تؤثر فيها البيئة في الذكاء.
لكننا في الواقع لا نعرف بوضوح كلي ما هي حسابات المخ للذكاء، فحتى حجم المخ لم يوضّح لعلماء الأعصاب الكثير عن اختلاف القدرات العقلية؛ فمثلا هناك أناس يمتلكون أمخاخًا صغيرة الحجم، ويحرزون نتائج في اختبارت الذكاء أعلى من ذوي الأمخاخ الكبيرة. بينما أشارت بعض الدراسات إلى أن الذكاء مرتبط بشكل ما بمدى كفاءة المخ في إرسال إشارات من منطقة لأخرى. وقد توصلت مئات الدراسات إلى وجود تأثير للجينات على الذكاء. لكن ذلك لا يعني بالطبع انعدام التأثير البيئي. فمثلا وجود الرصاص في ماء الشرب ستكون نتيجته المباشرة انخفاض نتيجة اختبارات الذكاء. في حين أن تناول أطعمة تحتوي على الأيودين يرفع من النتائج.
جدلية العِرق والجينات والتطور أيضًا
فكرة اختلاف القدرات العقلية بين الأمم على أساس جيني ليست جديدة، بل قديمة قدم العبودية والاستعمار؛ لكنها عادت لتطفو على السطح. وهذه الفكرة يطلق عليها البعض وصف «العلم العنصري» ويُتهم بأنه أسطورة وعلم كاذب روجه اليمين المتطرف، لكي يبرر سياسات القومية الإثنية.
فعلى سبيل المثال، كتب ستيف بانون، المساعد السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يوليو (تموز) 2016، يقول: «الشرطة أطلقت النيران على بعض السود وأنهم ربما يستحقون ذلك، لأن هناك أناس يتسمون بالعنف والهمجية بالفطرة»، فيما يُذكر أن هذا «العلم» أصبح مستهجنًا بعد «الهولوكوست» لكنه عاد وتصاعد مرة أخرى بحلول السبعينات.
أما عالم الوراثة ديفيد رايخ، فقد ظل يجادل بأن الفترات الطويلة من التوارث في القارات المنفصلة قد تركت علامات أو خصائص جينية على السكان المعاصرين. وهذا الاستقراء الجيني المبني على الصفات الجسدية يعيد إلى الذاكرة، الجدلية التي صنعها الباحثان تشارلز موراي وريتشارد هيرنيشتاين، في كتاب« منحنى الجرس» الذي صدر عام 1994 والذي يقدم تحليلات إحصائية لاختلافات الذكاء في المجتمع الأمريكي، مطلقًا تحذيرات بخصوص النتائج المترتبة على الفجوة بين معدلات الذكاء، ويؤكد وجود علاقة بين نتائج اختبارات الذكاء الضئيلة للأمريكيين من أصل أفريقي، مقارنةً بالبيض والأسيويين، والعامل الجيني الذي يؤثر في القدرات العقلية.
ويمكن القول بأن اختلاف نتائج اختبارات الذكاء بين المجموعات العرقية نتيجة عوامل بيئية وجينية يبدو معقولًا في البداية، فالفرضية تعترف بوجود عوامل بيئية وثقافية قوية مؤثرة في متوسط نتائج الاختبارات في المجموعات المختلفة، سيؤدي إلى رفع الـ«IQ» أو خفضه؛ إذن فإن الاختلافات الجينية تفيد أيضًا بأن تباين الجينات في شعب ما بين الناس ستعزز الاختلاف في الـ«IQ» بين المجموعة الواحدة أيضًا. لكن في الحقيقة فإن الجينات والتاريخ التطوري للذكاء لها رأي آخر؛ فمعظم صفاتنا الجسدية مثل الطول قد قادها الانتخاب الطبيعي في مستوى أمثل لنا كبشر.
وبعض الاختلافات الجينية ينتج عنها أن يكون بعض الناس أقصر من متوسط الطول، والبعض تجعله أطول، والتوازن بين هذه الاختلافات يُحفظ بواسطة الانتخاب الطبيعي. لكن الذكاء لا يمشي على الوتيرة نفسها. والطول ليس بأهمية الذكاء، لذا فقد كانت القوى التطورية تقود الذكاء باتجاه واحد في أسلافنا القدامى، فالذكاء هو صفتنا المميزة وميزتنا الوحيدة عن الحيوانات. فهو ما أعطانا اليد العليا لاستعمار البيئات المختلفة، وتضخمت فائدته بعد اختراع الحضارة واللغة. هذه الميزة الاختيارية الناشدة لمستوى ذكاء أعلى صنعت تأثيرًا يشبه كرة الثلج. ربما لم يحدّه سوى متطلبات الأيض لمخٍ كبير.
والتطور وهبنا برنامجًا جينيًا مزودًا بتعليمات عن كيف تُبنى أمخاخنا المعقدة بواسطة قدراتنا الإدراكية. لكن أي برنامج جيني يتأثر بالطفرات ولا يُستثنى منه أحدًا. والمحصلة هي أن البشر في أي أمة تحمل باقة مختلفة من الطفرات التي تؤثر في الذكاء. وهي تختلف بين الأمم والعشائر والعائلات. وهذا الخضّ المستمر في الاختلاف الجيني يعمل ضد أن يكون هناك ارتفاع أو انخفاض في الذكاء على المدى الطويل.
هل نحن ضحايا جيناتنا؟
لا ينبغي أن ننظر للذكاء كما لو أنه حليب منتوج بواسطة قطيع من الأبقار، يتم التحكم فيه بواسطة باقة مخصصة وثابتة من الاختلافات الجينية التي تتوارث من جيل لجيل. فهناك آلاف المتغيرات التي تتحكم في الذكاءوهي تتغير باستمرار، وهي تؤثر بالتبعية على صفات أخرى. هذا الاختلاف الجيني المنهجي للذكاء المفترض بين الأمم يفترض أن تكون القوى التي تسوقه عملاقة، قوى تعمل في كل القارات في بيئات شاسعة الاختلاف. وينبغي كذلك أن تستمر لآلاف السنوات، وسط تغير ثقافي هائل. وهو سيناريو غير قابل للتصديق.
والاختلاف الجيني يوضح لنا لماذا يوجد شخص أذكى من شخص، لكن من غير المرجّح أن تكون هناك اختلافات جينية منهجية ثابتة، تجعل أمة أذكى من أخرى. لذا إذا كنا مهتمين بمستوى ذكاء البشر، فمن الأفضل التركيز على العوامل البيئية والثقافية، والتي ترتبط بالذكاء ونستطيع تغييرها أيضًا. مثلا صحة الأمهات والأطفال، تغذية الأطفال في بداية حياتهم، التعرض للسموم التي تسبب اضطراب النمو العصبي مثل الرصاص، وجودة تعليم تُحرز فارقًا بالطبع. وإدارك أن اختبارات الـ«IQ» تقيس القدرة العقلية، وليس الحد الذي من الممكن أن تصل إلى قدرات الإنسان العقلية.
المصدر: ساسة بوست