أسماء السكاف تكتب: شبح الحرية

قصة حدثت في ثمانينات القرن الحادي والعشرين، حدثني بها صاحبها قبل أن يتوفاه
الله من فترة قريبة، نقلتها لكم بلسانه وأسلوبي.
وضعت قدمي على أرض هذا البلد الجديد في شهر يوليو من عام 1982، بمجرد خروجي من باب الطائرة لفحتني نسمات من الهواء الساخن شعرت لوهلة أنى أقف أمام فرن أمي،
أمي التي تركتها تذرف الدموع على فراقي ولا أدري متى يمكن أن ألتق بها مرة أخرى،
أذكر جيدا خطواتي على سلم بيتنا خطوة خطوة نزلت وأنا أخلع نفسي خلعاً موجعاً منظر إخوتي الصغار يقفون على رأس الدرج يلوحون بأيديهم لا يفارق مخيلتي، شعرت لحظتها كم أحب منزلنا وأحب وجود أبي وحتى قوانينه ًالتي كنت أتبرم منها، أعشق طبخ أمي وصوتها المسموع دائما في أرجاء المنزل ملقية أوامرها علينا، كانت تزعجني ملاحقاتها
لنا ولكني الآن أشعر بها كأطيب ذكرى، مكتبتي الحبيبة حملت ما قدر لي أن أحمل مما خف وزنه من كتبي، أخبرني أحد الشباب أنه سيتدبر أمر باقي الكتب ويحضرها لي بعد أن تهدأ الأمور، لا يمكنني العيش بلا كتبي وأصدقائي ولا نقاشاتنا وسجالاتنا الفكرية، في نهاية الدرج على باب المدخل تقف الياسمينة بشموخ وثبات وثقة تنشر الرائحة وتعطر الداخل والخارج من بنايتنا الأنيقة وتمد لنا عدداً من الأفرع الصغيرة لنربط بها دراجاتنا الهوائية فتحميها لنا ليلا من السارقين أو العابثين، احتضنتها قبل أن أركب سيارة الأجرة التي طلبها لي والدي لتقلني الى بيروت أجزم أن من رآني ضحك، سيقول السمان (صاحب البقالة الصغيرة) وهو ينظر لي من كرسيه المطل على الشارع: جن الشاب المثقف يحتضن الياسمينة، ملأت أنفي برائحتها وركبت السيارة أنظر لكل ما حولي قائلاً لنفسي: فترةً قصيرةً وسأعود… مع انطلاق السيارة بدأ التوتر يدخل قلبي سألتقي بصديق على حدود بيروت البرية ليدخلني ماذا لو دققوا بأمري! ماذا لو اعتقلوني! هل سينالني نصيب مما سمعت من حكايات الرعب التي تحدث في الداخل؟ هل سأتحمل وأصمد دفاعاً عن مبادئي ورأيي؟ سأقول لهم: لم أضر أحداً ولم أقتل أحداً قلت رأيي فقط ولكن هل سيسمعونني؟ أم من الأصوات والصراخات في الداخل سيذهب كلامي أدراج الرياح ولن يسمع، وصلنا الحدود وازدادت ضربات القلب التي تخفيها عن الأعين ابتسامتي الهادئة التي أرسمها على وجهي بإتقان، و بطريقة ذكية وسريعة باغتنا موظف الجوازات على أساس أننا أبناء أحد المسؤولين فقد كان اسم عائلتي يساعد إن لم يدقق الموظف جيدا وعبرنا بسرعة شعرت حينها بدعوات والداي تحيطني وتحملني عبر الحدود، بت وصديقي ليلتنا في بيروت على
أن أودعه صباح اليوم التالي وأنطلق مكملاً رحلتي إلى ذلك البلد الخليجي الحلم بالنسبة للكثيرين ممن يحلمون بالثراء السريع، أنا لا ينقصني المال فوضع والدي في بلدنا ميسور نوعا ما ولكن ينقصني الأمان والحرية وهذا أيضا سمعت أنه متوفر بشدة في البلد الحلم.
حلقت بي الطائرة وصرت بين الغيوم مخلفاً ورائي أباً وأماً لم يسبق لي أن رأيت بعينيهما نظرة حزن كالتي رأيتها عند وداعي، ربااااه رحماك بهم، اللهم لقاء قريب فأنا أتفطر شوقاً من أول ليلة فكيف ستكون أيامي، تنبهت على صوت موظف الجوازات في بلدي الجديد يقول: حللت أهلا والحمد لله على السلامة.
مشيت وحيداً ترافقني حقيبتي الصغيرة المملوءة بالكتب وبعض الثياب طلبت من سائق سيارة الأجرة أن يتجول بي في شوارع هذا البلد الجميل الحار، رغم تجاربي ومغامراتي العديدة إلا أن شعور الانفصال الاجباري عن والداي كان يؤلمني ربما لإحساس قوي باللاعودة وأن هذا آخر عهدي بالوطن ومن فيه، وصلت الفندق كلمت والداي سمعت صوت بكاء الفرح باطمئنانهم علي، أنا بخير قلتها وبداخلي رددت: لست بخير أبدا بعيدا عنكم.
من أين أبدأ؟ وما الذي سأفعله الآن؟ كنت أتناول إفطاري وأفكر، تذكرت أن لي قريباً لا أعرفه، أعطاني أبي رقمه عندما ودعني قال لي: رقم العم أبو حسان ضعه في جيبك قد
تحتاجه، سأتصل به لأرى إن كان بإمكانه مساعدتي على تأمين عمل.
يملك محلاً في العاصمة شرح لي كيف أصل إلى هناك، رحب بي وكأنه يعرفني شعرت بحنان في صوته ربما الغربة تقرب أبناء الوطن الواحد لبعضهم البعض كما قيل.
أبو حسان يمتلك محلاً لبيع الثياب الجاهزة أخبرني أنه يحتاج لأحد يساعده في المحل لا أدري هل هو بحاجة أحد ما أم أنه لأجلي وأجل خاطر والدي قال هذا، سألني عن أحوال البلد وعن الشوارع وعن الجميع سألته: لم لا تعود؟ قال بتنهيدة حملت معها الكثير من المعاني التي فهمتها: مع الأيام والسنين يا بني ستعرف قيمة أن تضحي بشيء مقابل شيء، كانت النقود التي أجنيها في نهاية كل شهر كافيةً لسد مصروفي رغم إلحاح والدي بأن أجد له طريقةً ليحول لي مبلغاً إلا أنني كنت أرفض رفضاً قاطعاً فلن أحمله فوق طاقته، يكفيه إخوتي الأصغر مني، والدي منذ مدة يقتطع جزءا من مدخوله ليوسع محله بالتأكيد سيرسل لي من هذا المال الذي يوفره، في لحظتها خطرت لي فكرة لمعت كثيرا وأضاءت في عقلي أن أجمع مبلغاً وأرسله لوالدي لتوسعة المحل فهو يؤجل الموضوع من سنوات من أجل طلباتنا.
عندما استلقيت مساءا على سريري في الشقة الصغيرة الأنيقة التي استأجرتها بإيجار شهري بمكان قريب نوعا من العاصمة مقر عملي قلت لنفسي: سأشتري مكتبا صغيرا
أضعه هنا بجوار المكتبة سأعود لكتابتي، تنبهت على نفسي وكأنني أتعامل مع البقاء دائما هنا، لا.. لا أريد الغربة للأبد، أنا أتابع الأخبار الأمنية في بلدي ولا أظن الوضع مطمئنا، سمعت عن حملة اعتقالات جديدة طالت اثنين من أفضل أصدقائي، بكيت عندما عرفت فلكم حاولت إقناعهم بالمجيء معي ورفضوا، بعد الذي سمعت لن أفكر بالعودة الآن مطلقا سيكون الأمر أشبه بالانتحار، ها أنا أكملت شهري الرابع في بلدي الجديد وكل يوم أستيقظ على أمل العودة القريبة، صباح اليوم استيقظت والشوق يعتصرني لن أستطيع الصبر أكثر من هذا أبدا كلمت أبي وأمي اشتقت لوجهيهما اشتقت لرائحتهما أشعر بحنين قوي لكل شيء في بيتي، نظرت بانكسار للشقة المرتبة الهادئة التي أسكن فيها: كم تبدو موحشة، ليست بيتي ولن أتعامل معها كأنها بيتي انفجرت ببكاء لم أبكي بهذه الطريقة من قبل أبدا، أمي تبكي كلما سمعت صوتي وأخوتي يرجوني بأن أعود وكأن الأمر بيدي.

اتفقت مع أهلي بأن ألتقيهم نهاية هذا الشهر في بيروت، مضت الأيام ببطء والتقيت بهم وحان وقت الوداع مرةً أخرى، في نظرات الحزن والقهر بأعينهم عند الفراق شعرت بالندم لأول مرة في حياتي على انخراطي في عالم السياسة المقيت يا ليتني ما قلت يا ليتني ما كتبت يا ليتني ما تمنيت إن كان وجع أمي وأبي هو الثمن، أنا شاب قد أتحمل قد أسيطر على هيجان القلب والمشاعر عندما تطغى ولكن هذين القلبين! يا رباه فرجك. مضت الأيام كما هي أنا ببلد وقلبي ببلد، صار لي عمود أسبوعي أكتبه في إحدى أهم الجرائد هنا، وسلمني العم أبو حسان إدارة المحل بعد أن أعجبته طريقتي في التصرف بأمور البيع وغيرها، يعاملني كولد له وكأنني صاحب المحل، جمعت مبلغا لا بأس به من المال في هذا
العام فمصروفاتي قليلة وحتى خروجي قليل فأنا بين عملي وكتبي ومتابعة آخر التطورات آملا العودة،
كل من حولي من أصدقاء وأصحاب محلات يلحون علي بأن أفتح محلا خاصا بي بعد أن برعت وأتقنت إدارة المحل وكل أموره كافة، حتى أبو حسان صاحب المحل رغم رغبته بأن أستمر معه إلا أنه شجعني على الاستقلال والانطلاق لتجارتي الخاصة.
صرت محتارا بما في يدي من مبلغ مالي بين هدفي الأول بإرساله لوالدي وخصوصا بأن
البلد بعد الأحداث والبلبلة يمر الآن بفترة ركود اقتصادي وبالتالي أنا موقن بأن وضع
والدي المادي ليس كما تركت، وبين هدفي الجديد بفتح محل خاص بي لتجارة الألبسة ربما
سيدر علي مدخولاا أستطيع بعده أن أرسل لعائلتي ما أشاء بل وحتى أظنني قادرا على
إحضارهم إلي هنا فقدوم عائلتي إلي يتطلب مبلغا لا بأس به أنا غير قادر عليه الآن من
ااا
تأشيرات وإقامات وتأمين مكان إقامة ومصرف، كلها أمور تحتاج مدخولا قويا ثابتا.
احترت جدا، صوت في داخلي يهتف لي بضجيج مربك: لن تتاح لك فرصة أخرى بامتلاك محل خاص بك، أظنك سمعت بأن سوق العقار والمحال بارتفاع لو ارتفعت الأسعار لن تحلم بامتلاك محل، ولا تشعر بالأسى ستساعد وترسل لأهلك لاحقا.
في الصباح سيصل صديقي هيثم خرج من المعتقل منذ أسبوع تقريبا وعلى عجالة ودون
تروي خرج ولن يعود، ودع وترك وجاء للمنفى الجميل، استقبلته عانقت فيه وطني وأهلي وكل ناسي شممت فيه رائحة ياسمينتنا، حدثني عن كل شيء وحكا لي بالتفصيل ما حدث معه ومع باقي الشباب ومن ضمن كلامه أخبرني عن الأوضاع الاقتصادية السيئة جدا وعن الركود الذي يجتاح السوق بكافة محاله.
استيقظت صباحا توجهت لشركة التحويل حولت كل ما لدي من مال واتصلت بوالدي طلبت منه استقبال الحوالة، دعا لي ورضي علي أحسست بالنشوة في صوته، حمدت الله أني لم أرضخ لأوامر نفسي البشرية التي دعتني لتفضيل الأنا على أهلي.

بعد أيام قليلة دعاني العم أبو حسان إلى داخل مكتبه وأخرج من درج مكتبه ورقتين أعطاني نسخة وقال: كما تعرف ليس لدي لا أولاد ولا بنات وأبناء أخوتي لا أعرفهم ولا حتى بالمناسبات، كلمت المحامي كتبت لك المحل وما فيه من بضاعة باسمك أوشكت على الاعتراض أتاني صوته بحزم وحنان وتعب: لا أريد أي اعتراض أنا بكامل قواي العقلية ولكن الصحة لم تعد تساعد يا بني مضى من العمر أكثر ما بقي كأن الله أرسلك لي هدية وتعويضا، قلت: أطال الله عمرك يا عم وحفظك لي أنت بمقام الوالد.
وفعلاً لم تمض عدة أشهر وتوفي العم أبو حسان رحمه الله وجمعني به في جنانه، غيرت وعدلت وأضفت على المحل الكثير انتعشت تجارته وازدهرت، عوضني الله عما أرسلت
لوالدي أضعافا مضاعفة، حضرت عائلتي أبي وأمي وأخوتي، لن أصف اللقاء فوصفه لن يعطيه حقه، عودتي للوطن باتت شبه مستحيلة استقريت في وطني الجديد وأحببته وصنعت به ذكريات، صارت عائلتي تتنقل بين هنا وهناك بشكل شبه شهري أو موسمي، حدثني والدي عن يوم استلامه للحوالة المالية وكيف كان مضطرا على مبلغ ويدعو ويفكر كيف يتصرف لتدبيره، دعوات أبي وأمي أحاطتني وتحيطني ورضاهم علي ينبع من طيبهم ولأنهم فعلا الرقم واحد في حياتي.