مولاي محمد منار يكب: التعليم والسياسة والإعلام أسباب التدهور اللغوي العام الذي نعيشه
إن الأداء اللغوي لرجل السياسة يفرض نفسه على المتتبعين والمشاهدين، ويؤثر فيهم ليمس بذلك فئة الشباب بوجه خاص بما يشبه نقل العدوى أو المحاكاة اللاشعورية للنموذج الجديد المحبوب، ويعود هذا إلى انحطاط الأداء اللغوي لرجل السياسة الذي يحتل اليوم مكانة شاسعة في كل وسائل الإعلام المختلفة؛ حيث يفرض نفسه على المشاهدين والمستمعين في كل زمان ومكان، ليساهم في تطبيع ممارسة الخطأ وترسيخه لديهم دون سبق شعورهم بذلك. وحتى أن بعض الجلسات البرلمانية اليوم نجدها تتجه في اتجاه توظيف اللغة العامية، بذريعة أنها لغة شعبوية قريبة من كل المواطنين ويفهمها الجميع، ليستمر بذلك مسلسل الإخفاق والتدهور وينتشر الخطأ ويعم الجهل باللغة مدارسنا ومجتمعاتنا.
وأجد كذلك أن الإعلام باعتباره سببًا رئيسًا في هذا التدهور، والمساعد على ذلك. هو الوجه الآخر الذي يدعم البعد السياسي في شنق اللغة والقضاء عليها. وذلك من خلال نقل صوت رجل السياسة وتشيع صورته الناطقة بين الناس صباح مساء إلى أن تصبح مألوفة وومعتادة لديهم. فالإعلام بكل أجهزته المتنوعة يقوم بدور كبير للأسف في قهر تطور اللغة العربية، وسلب مكانة الزعامة منها، وذلك ببث برامج ومسلسلات تتحدث باللغة العامية التي تكون سائدة في تلك البيئة، ليصل الحال بهم إلى خلق تنافسية في كسب قلوب المتتبعين من البلدان العربية الأخرى ونشر لهجتهم أو لغتهم العامية على أوسع نطاق؛ وذلك بطرق مختلفة فيها نوع من الإغراء، منها الأفلام الكوميديا والهزلية، التي تسلب عقل المرء دون إدراك لترسخ لديه لغة جديدة دون سبق إنذار. وبالرغم من كل هذا هناك جهود أخرى تبذل من قبل ثلة قليلة للحفاظ على اللغة الفصحى، وذلك من خلال فرض الحديث بها في كل المقابلات وكذا دبلجة بعض الأفلام والمسلسلات بها، بالرغم من أنها لا تخلو هي الأخرى من بعض المزالق المضحكة.
وأما المناهج التعليمية فهي التي تضع اللبنة الأساسية لأية لغة، إما أن تحببها للتلميذ أو تكرهها له، لكن للأسف مناهجنا التعليمية لا تبشر بالخير وقد ساهمت بشكل كبير في تفشي لغات أخرى داخلة وتهميش لغة القرآن والأصل، ومنح اللغات الأجنبية دورًا مهما في تسيير الإدارات وتثقيف المواطن، حيث نجد أن معظم الناس الذين ينتمون إلى الفئات الميسورة يتقنون لغات أجنبية مهمشين بذلك اللغة العربية، وحتى إن عرفوها فإنهم يعرفون منها ما هو سطحي. فتخلف طرق التعليم هي التي أنتجت لنا هذا الفيروس الجديد، وساهمت في تضخيمه وتكبير حجمه أمام الطلاب؛ لنجد الكثير منهم يعيش نفورًا تامًا من اللغة الفصحى ويعتبرها لغة الجهل والجهلاء؛ بل يستهزأ بمن يتقنها ويتحدث بها، لتكون بذلك في زمن كان.
ومع الحديث عن اللغة تذكرت حينما استوقفني الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها، والتي قام بنشرها سنة 1903، بخوفه الشديد عن التيار الثقافي العربي بأكمله من لوثة الإفرنج؛ التي سرت في الحياة كما سرى لعاب الأفاعي في الماء العذب، والذي لفت انتباهي أكثر في هذه القصيدة هو الخطاب الدفاعي الذي استعمله الشاعر؛ حيث رد ضعف اللغة العربية الفصحى إلى ضعف الناطقين بها، مؤكدًا قدرتها على الانتشار والاتساع على أوسع نطاق، فهي كالبحر في أحشائه الدر كامن، ينتظر الغواصين الذين يكتشفون فيها ما يصل عظمة الماضي بتطلعات الحاضر، وهو خطاب يكشف عن توتره الذاتي بين الماضي الذي فاخرت لغته أهل الغرب، والحاضر الذي يهدد هذه اللغة بأن يهجرها أبناؤها إلى لغة أخرى، وهو أمر يحمل كل يوم مزلقًا يدني اللغة القومية من القبر دون إبطاء. فلا حل لما يقول هذا الرجل، إلا بالعودة إلى لغة الضاد التي حوت كتاب الله لفظًا وغاية ومضمونًا، وما ضاقت من آي به وعظات، واستخراج كنوزها المطمورة لمواجهة مخاطر الحاضر المحاصر بتحديات الآخر المتقدم.
إن الحل لإحياء اللغة الفصحى من جديد لا يمكن أن يتجه صوب إصلاح قطاع واحد من القطاعات التي ذكرتها أعلاه، بل يجب مراجعتها وتصحيحها معًا بخطوات متجانسة ومترابطة فيما بينها، وذلك بتكثيف وتضافر الجهود بين كل القطاعات المسؤولة التي من شأنها أن تحدث تغييرًا في هذه المعضلة الثقافية التي أصبحت تعتري المجتمع الثقافي العربي.