مستقبل العرب بين قذيفة مدفعية وخمسين ريالاً | كتب: د. شاكر الأشول
دخلت إلى أحد المحلات في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية لنسخ بعض الوثائق، وبعد لحظات لحق بي أحد الأشخاص، تحدث إلى أحد الموظفين، وطلب أن يساعده في عمل بحث، فأشار له باتجاه أحمد الذي كان يجلس في زاوية المحل وأمامه جهاز كمبيوتر.
ناول الرجل الورقة إلى أحمد، وقال له أحتاج بحثاً حول هذا الموضوع لطالبة في الصف الرابع، كان الموضوع حول وسائل الإعلام المختلفة.
سأله أحمد: كم صفحة؟
اتصل الرجل بابنته، فقالت له إنها تحتاج إلى أربع صفحات.
قال أحمد: هنخليها خمس صفحات.
بكم؟.. سأل الرجل.
بخمسين ريالاً، أجاب أحمد.
على بركة الله، سأعود لك بعد ساعة، لكن تأكد من وضع بعض الصور في البحث، قال الرجل وقد علت وجهه ابتسامة خجولة.
هكذا هو التعليم في البلاد العربية اليوم: في البلدان الفقيرة لا يمكن للمدرس أن يطلب من الطالب بحثاً؛ لأن الطالب ليس لديه مكتبة ولا إنترنت ولا حتى كهرباء وفي بعضها يهرب الأطفال من مكان إلى مكان؛ لينجو من قذائف الموت، وفي البلدان الغنية عندما يطلب المدرس غير المؤهل بحثاً دون أن يعلم الطلاب منهجية البحث يذهب الأب ويشتري بحثاً من خمس صفحات بخمسين ريالاً.
الوطن العربي اليوم في وضع كارثي، وإذا كان حال التعليم في الوطن العربي في هذا الوقت بهذه الحالة، فإن المستقبل أيضاً سيكون كارثياً، الشعوب العربية ستكون بين من حُرم من تجربة التعليم والتفكير النقدي والتعلم الجماعي باستخدام التكنولوجيا وبين من يشتري أبحاثه وشهاداته في بيئة لا يتوافر فيها المعلم المؤهل، ولا معايير التعليم والتعلم الواضحة.
إذاً من أين يأتي المستقبل الأفضل للعرب والتعليم قد دُمر في كبرى دوله كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وباقي الدول الفقيرة لا تستطيع أن توفر لأبنائها تجارب علمية وبيئة ثقافية بناءة تنمي فيهم حس المواطنة والمسؤولية وتعزز قدرتهم على التنافس عالمياً في القطاعات العلمية والصناعية والتجارية والمهنية المختلفة؟
من يريد أن يدرك حجم الكارثة عليه أن يتابع القنوات العربية هذه الأيام ليسمع الحوار فيها، وليسمع السفه، وليسمع الاستغباء وليلمس الإقصاء والنبذ والتهميش الذي يعكس ما يحدث على الواقع في المجتمعات، حوارات ولغة وأساليب رخيصة ومبتذلة وتهجمية وسلبية لا تساهم البتة في بناء المجتمعات، ولا تدعم التعايش، ولا تشجع على الاختلاف الذي يثري أي مجتمع.
التعليم في الماضي أنتج ما نراه اليوم وما نسمعه وما نقرأه، والتعليم اليوم سينتج جيلاً مشابهاً في المستقبل لما نراه اليوم، وتلك هي الطامة الكبرى.
التعليم أولاً، التعليم أولاً، التعليم أولاً، يجب أن يكون هو شعار وهدف المرحلة لتغيير هذا الواقع البائس، ولمحاولة التأثير في المستقبل المظلم الكارثي الذي ينتظر العرب إذا لم يصبح التعليم الهم الأول.
في الحقيقة قد يتحقق ذلك في دول مثل الإمارات وقطر وتونس وربما الجزائر والمغرب والبحرين وعمان والمملكة العربية السعودية وحتى مصر، مع وجود تحديات اقتصادية هائلة، إذا توافرت الرؤية والإرادة وسخرت الموارد اللازمة لها، أما بالنسبة للدول العربية التي أصبحت ميادين صراع طائفية ومناطقية حول السلطة، فإن تلك الصراعات ستستغرق سنوات طويلة ويروح ضحيتها أجيال الحاضر الذين سيحرمون من حقوق العلم والمعرفة ومهارات الحياة والعمل التي تمكنهم من التنافس مع الغير في أسواق العمل العالمية التي ارتفع سقف التوقعات فيها.
في مثل هذه اللحظات ابحث عن المتفائلين، وابحث عن التفاؤل الذي سرعان ما يختفي سرابه وراء معطيات واقع تقول إن أغلب العرب اليوم بطريقة أو بأخرى يصنعون مستقبلاً بائساً بأيديهم، البعض يصنعه بإقحام المجتمعات في الصراعات الدينية والسياسية للسيطرة ولتهميش الآخر، والبعض يصنعه بسياسات غبية وغير متزنة وبتعليم يفتقد إلى المنهجية والمعايير، وبيئة تفتقد إلى حريات الثقافة والتفكير الذي يخرج العربي من تحت مظلة الاستهلاك والتقليد إلى مظلة الإنتاج والإبداع الأصيل والمتناسب مع بيئته واحتياجات مجتمعه.
سيظل هنالك متفوقون عرب ومبدعون متميزون، لكن دعونا ندرك أن النجاحات الفردية والتميز الشخصي لا يمكن ترجمتها إلى نجاح يكفل النهضة المجتمعية في مجالات الحياة المختلفة.