«الاستعصاء» العربي في تصنيف الجامعات لا ينقذه التقدّم السعودي
لم تنل استقلالها سوى عام 1963، وقبله خضعت لاحتلال بريطاني مديد امتد منذ 1819 إلى الاستقلال، ولم يقطعه سوى استسلام تلك الجزيرة (بالأحرى، الأرخبيل الصغير عند طرف المحيط الهندي) لليابان في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك تقدّمت سنغافورة على جامعات العرب كلها، بمراتب كثيرة، في «التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم» Academic Ranking of World Universities المعروف باسم «تصنيف شنغهاي للجامعات الـ500 الأفضل عالميّاً. (أنظر «الحياة» في 16 آب/ أغسطس 2016).
نعم. حلّت «جامعة سنغافورة الوطنيّة» (وهي تابعة للدولة وقطاع التعليم العام، ما ربما لا يروق لدعاة النيوليبراليّة العرب)، الآتية من دولة ضئيلة المساحة والسكان والدخل، وحلّت في المرتبة الـ83 عالميّاً. ولم تسبقها في جامعات الشرق الأوسط سوى «معهد التخينون للتقنية» في إسرائيل (المرتبة 69)! وتقدّمت سنغافورة بمراتب كثيرة عن تركيا («جامعة إسطنبول» جاءت في الفئة 401 -500) وإيران («جامعة طهران» وصلت إلى الفئة بين 301- 400)، التي تقدّمت عليها السعوديّة في أكثر من منحى.
الأرجح أن الأبرز في ما أنجزته السعودية جامعيّاً، تمثّل في نيل «جامعة الملك عبدالعزيز» المرتبة السادسة عالميّاً في الرياضيّات، وهي قلب العلوم الصلبة بامتياز. واستطراداً، تدأب السعودية على المشاركة في «أولمبياد الرياضيات العالمي»، بل أنها تحرز إنجازات فرديّة وجماعيّة فيه.
وفي «تصنيف شنغهاي- 2016»، نجحت 4 جامعات سعودية في الوصول إلى ذلك التصنيف (سنغافورة أوصلت جامعتين، وجامعتها الثانية («نانيانغ») حلّت في الفئة 101- 150)، مع وصول «جامعة الملك عبد العزيز» و «جامعة الملك سعود» إلى الفئة 101- 150. وحلّت «جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا» في الفئة 201- 300، و «جامعة الملك فهد للبترول والمعادن» في الفئة 301- 400.
هيمنة أميركيّة بأبعاد متعدّدة
على سبيل التحسّر ربما، يجدر التذكير بالاكتساح الأميركي الفائق للمراتب الأولى في هذا التصنيف المركّب من خمسة مؤشّرات متداخلة. ونالت جامعات أميركا 15 مرتبة من أصل العشرين الأول عالميّاً. واحتكرت جامعات الولايات المتحدة المراتب العشر الأول، مع اختراق بريطاني يتيم (أوكسفورد، المرتبة 7). واحتكرت جامعات أميركا المراتب الست الأول في العلوم، والمراتب العشرة الأولى في الهندسة (مع اختراق للـ «إمبريال كولدج، 6)، وعلوم الحياة (مع اختراقين بريطانيّين)، والطب (مع اختراقين بريطانيّين)، وعلوم الاجتماع من دون منازع. ويلفت أن جامعات الولايات المتحدة تصدّرت المراتب في العلوم الصلبة والإنسانيّة، ما يعني أن من يفكر في القسمة القديمة بين هذين النوعين، يجدر به أن يعيد النظر في ذلك. الأرجح أن المجتمعات تتقدّم في العلوم ضمن آليات متشابكة ومتداخلة ومتفاعلة، ما يدفع إلى التفكير في تلك الآليات، وتالياً سبب غيابها عن عالم العرب بعمومه.
النوم «الثقيل» على ماضٍ غَبَرْ
في «تصنيف شنغهاي»، نافست فرنسا (المرتبة الخامسة) والسعودية (المرتبة السادسة)، وبريطانيا (المرتبتين السابعة والتاسعة)، جامعات أميركا في المراكز العشرة الأول. ولم تنجح سوى اليابان («جامعة طوكيو»، المرتبة 7) وبريطانيا («جامعة كامبردج»، المرتبة 9)، في كسر الهيمنة الأميركيّة الكاسحة لعلم الفيزياء الذي يحتل القلب في التقنيات الحديثة، بداية من المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، ووصولاً إلى الطاقة بأشكالها والتسلح وعلوم الذرة والفضاء وغيرها. وتكرّرت الصورة عينها في الكيمياء، التي لم يزاحم جامعات أميركا فيها سوى بريطانيا (المرتبة 6، بالتساوي مع «معهد ماساشوستس للتقنية») وألمانيا (8) واليابان (9).
ولم تنجح دولة على الكرة الأرضيّة في كسر هيمنة جامعات أميركا على المراتب العشر الأول في الكومبيوتر. ألا يتفق ذلك مع الوضع المتفوق لشركات «وادي السيليكون» في تقنيات الكومبيوتر والانترنت والاتصالات المتطوّرة عالميّاً؟ ولم يفلت علم الاقتصاد من الهيمنة الأميركيّة على المراتب العشر فيه، وهو أمر لا يبعد كثيراً عن كون الاقتصاد الأميركي أولَ عالميّاً، بل أنه ما زال قاطرة الاقتصاد العالمي برمّته.
وباستثناء السعودية، لم تظهر جامعات العرب في «تصنيف شنغهاي- 2016»، سوى جامعة مصريّة وحيدة، هي الجامعة الأميركيّة التي حلّت في الفئة 401- 500، وهي فئة لا تصنيف في درجاتها، بل تظهر فيها الجامعات وفق الترتيب الأبجدي لأسمائها! هل يتفّق مع صورة مصر ووزنها أن لا يكون لها سوى جامعة وحيدة في ذلك التصنيف، على رغم أنّها تحتوي أحد أقدم جامعات العالم؟ ألا تدفع نتائج العرب إلى التفكير في نظام التعليم بأسره عربيّاً، الذي تمثّل الجامعات التعبير الأكثر كثافة عنه؟
ليس الحديث عن جامعات العرب مجرد نواح ولا جلد للذات، وهو تعبير لا ينطبق في بلدان تميل إلى عدم التفكير مطوّلاً في مؤشّرات تخلّفها عن ركب العلوم والحضارة، مفضّلة النوم على أمجاد الماضي الذي نبعد عنه بسرعة الضوء. أليس مؤلماً (كي لا نستخدم وصفاً آخر) القول أنّ شعوبنا كانت متقدّمة قبل قرون، من دون أن ننتبه أن ذلك يعني أنها لم تستطع الخروج من هاوية التخلّف عن التقدّم العلمي على مدار قرون أيضاً؟