كتاب أكاديميا

أقزام وعمالقة بقلم د. إقبال الشايجي

  

 “إن كنت قد رأيت أبعد منكم فلأنني أقف على أكتاف عمالقة”.

في الحقبة التي نشطت فيها النظريات الرياضية والكونية المتعلقة بالجاذبية وغيرها، وبالتحديد في سبعينيات القرن السابع عشر، تبادل العالم روبرت هوك العديد المراسلات والنقاشات العلمية مع زميله إسحق نيوتن، ثم اتهمه هوك بأن اكتشافاته في مجال الجاذبية والحركة ما هي إلا نتاج هذا الحوار بينهما، وأن نيوتن قد استغل بعض أفكاره ونسبها إلى نفسه، فرد عليه نيوتن بالجملة الشهيرة: “إن كنت قد رأيت أبعد منكم فلأنني أقف على أكتاف عمالقة”، مقتبساً ذلك من فيلسوف القرن الثاني عشر برنادر شارتر، الذي وصفنا جميعاً، وبالأخص طالبي العلم، بالأقزام المحمولين على أكتاف العمالقة: نرى أكثر وأبعد ممن سبقونا، لا لأن نظرنا أفضل ولا لأننا أكبر، إنما لأننا نبني على إنجازاتهم السابقة، والذي قصده نيوتن في رسالته أن ما وصل إليه من اكتشافات علمية قد بناها هو على جهود واكتشافات من سبقوه في العلم، سواء كانوا من علماء عصره أو من سبقهم.

إذا تعقبنا أصل قصة الأقزام والعمالقة، فسنجدها تعود إلى الأساطير اليونانية، عندما أصيب العملاق أوريون بالعمى، فوضع خادمه سيداليان على أكتافه ليوجهه شرقاً ناحية ضوء الشمس، لكي يشفى ويستعيد بصره.

في الحقيقة، نحن جميعا إما أقزام أو من العمالقة في زمن أو آخر من حياتنا، فإن كنت مسؤولاً وبيدك القرار (سواء كنت على “رأس” قسم، أو إدارة أو مؤسسة أو وزارة أو حتى حكومة) فأنت من الأقزام، تقف على أكتاف العمالقة من المبدعين والمجتهدين والباحثين، ومجموع جهودهم وعملهم هي الهامة العملاقة التي تبني عليها قراراتك وتستمد منها قوتك لأنك سترى الصورة أوضح وأبعد منهم، وبدونها لن تتمكن من اتخاذ قرارات سديدة، صحيحة. فإن كنت مبصراً كالقزم سيداليان، فستوجههم نحو النور لكي يتقدموا ويصلح حالهم من خلال توجيهاتك، وإن كنت قزماً أعمى، فلن يفيدك عملاق المعلومات والموارد الضخمة الذي تقف على كتفيه، لأنك لا تعلم كيف توجهه وإلى أين.

وأما إن كنت من العاملين الذين يكوّنون هذا العملاق، فإن لم يكن هناك من يوجه جهودك ويقودك للنور، فستظل عملاقًا أعمى في مكانك، حجمك ضخم لعظم مواردك لكنك لن تتقدم ولن تشفى من العمى، مادام من يقودك لا يمتلك الرؤيا لذلك، ولكن لتعلم أنك لست وحدك من يكوّن هذا العملاق، إنما هم فريق المجتهدين والمخلصين من سائر أطياف المجتمع: هم جسدٌ واحد، روحه التعاون والتآلف والتلاحم، إِذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهرِ والحُمّى.

إن الوضع الحالي يقول إننا نمتلك العديد من العمالقة: فلدينا المال والعتاد من المبدعين والمجتهدين والباحثين في كل قطاعات الدولة، بل عمالقتنا كلهم أقوياء لأن أساسهم الشباب الواعي والمثقف، والمتحمس للعمل الدؤوب. ما ينقصنا فقط هم الأقزام المبصرون الذين سيوجهون هؤلاء العمالقة لرفعة البلد ورقيه، ولا ضير في أن نسميهم بالأقزام لإضافة صفة التواضع على المسؤولين، فهم بدون عمالقتهم، لا يمتلكون سوى الكراسي التي يجلسون عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock