الكادحون الصغار .. أطفال تُنتهك براءتُهم في سوق العمل!
بوجوهٍ شاحبة، ونظراتٍ ملؤها التردد والخوف، يبدأ أطفالٌ رحلتهم اليومية لكسب العيش في شوارع الكويت، فيما أقرانهم يتوافدون على المدارس لتلقي العلم واكتساب المعرفة.. وبملابسهم الرثة، وأمنياتهم المعلقة في فضاء المجهول، يمضي «أطفال سوق العمل» الوافدين، إلى مصائرهم.. وسط سطوة ظروف قاهرة أجبرتهم على «ركن» طفولتهم جانباً، والتوغل في دنيا الكبار وممارسة أعمالهم ومهنهم الشاقة، لتأمين دفع ايجار السكن، وتسديد رسوم الإقامات وأقساط المدارس.. وإذا فاض بعض المال، فلا بأس من «إسكات» صرخة الجوع، وتضميد آلام الجسد الغضّ.
حين تراهم، ترى الرهقَ في أعينهم الذابلة، والتعبَ مثل جبل يحطّ على كاهل أعمارهم الهشة. وحين تكلمهم، تجد أحلامهم ضئيلة ومشتتة.. وتجدهم مستسلمين لأقدارهم ووضعهم المزري، الذي وجدوا أنفسهم مجبرين على التعاطي معه بشكيمة لا تلين، فـ «المعايش جبّارة»!
وعلى الرغم من إدانة القوانين المحلية والدولية ومواثيق حقوق الطفل عمل الأطفال في مختلف المجالات، إلا أن عملهم تحول إلى ظاهرة انتشرت بشكل لافت حتى بتنا نعيش تفاصيلها يوميا في الكويت، من دون تحرك فعلي من قبل الجهات المعنية.
القبس قامت بجولات ميدانية على مناطق سكنية وصناعية وتجارية واستثمارية، رصدت خلالها أطفالا يعملون في مهن كثيرة ووظائف مختلفة لا تتناسب مع أعمارهم، واستطلعت عن كثب أحوالهم وظروف عملهم في الأسواق الشعبية والمحال التجارية والكراجات وبسطات الأرصفة والدوارات، واستمعت إلى أبرز المشاكل والصعوبات التي تواجههم في حياتهم وعملهم، وأخذت آراء عدد من المواطنين والمسؤولين عنهم.
التفاصيل في التحقيق التالي:
البداية كانت بجولة على مجموعة من المناطق السكنية، كالخالدية والدوحة والصليبخات والواحة وسعد العبد الله، حيث رأينا أطفالا في أعمار متفاوتة وجنسيات مختلفة، جالسين في بسطات لبيع «الرقي»، في وقت الظهيرة وتحت أشعة الشمس اللاهبة، والتي تجاوزت درجتها وقتذاك الـ 45 درجة مئوية.
بائع الرقي
الطفل علي (من فئة «البدون»)، يبيع الرقي في منطقة الواحة، ويقول إن سبب دخوله سوق العمل وهو في هذه السن، يعود الى ظروف أهله الصعبة، بعد ارتفاع قيمة الإيجار الشهري لشقتهم المستأجرة في المنطقة، مما دفع والده لتدبير عمل له يمكنه من المساعدة في دفع الإيجار، فلم يجد سوى تاجر متخصصين في استيراد وبيع الرقي، والذي وضع له بسطة يبيع فيها الرقي لأهالي المنطقة من مواطنين ومقيمين. وعن ساعات العمل وأجره الشهري، أشار إلى عدم وجود ساعات محددة، حيث إن التاجر «صاحب الحلال» يضع له في البسطة 50 كرتون رقي، وعليه أن يبيعها قبل نهاية اليوم، فمتى ما تمكن من بيعها يذهب إلى حال سبيله، مشيرا إلى أنه يحتاج في بعض الأيام لنحو 8 ساعات لبيع كلّ الرقي، ويحتاج ساعات أكثر في أيام أخرى، بينما يبلغ أجره الشهري 120 دينارا، يدفعها صاحب العمل إلى أبيه، الذي يعطيه بدوره 20 ديناراً منها.
كراجات
قمنا بجولة على ثلاث مناطق صناعية، هي: الشويخ والصليبية، والجهراء، فرأينا أطفالا من جنسيات عربية، تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاما يعملون في كراجات تصليح السيارات، بعضهم يصلح الإطارات، وآخرون يبدلون زيوت المحركات، وغيرهم في مهن أخرى متنوعة، ولحظنا الإرهاق الشديد باديا عليهم، والعرق يتصبب من أجسادهم، ووجوههم تلونت بسواد الإطارات وملابسهم اتسخت بزيوت المحركات.
رأينا طفلا سوريا لا يزيد عمره على 12 عاما، تفتحت عيونه مبكرا على إطارات السيارات المثقوبة ورفع أثقال المركبات وتثبيت مكائنها. كان يصلح إطارات ذات أحجام كبيرة وأوزان ثقيلة بصعوبة شديدة، وكانت المفاجأة عند حضور المفتشين للكراج، شاهدناه يتوقف فجأة عن العمل، ويجلس على الكرسي، حيث سأله أحدهم عن سبب تواجده في المكان، فقال إنه ينتظر والده الذي يعمل في كراج قريب في المنطقة، فذهب المفتشون لحال سبيلهم، فاقتربنا منه وسألناه عن سبب ما فعله، فقال: حتى لا يوقفوني عن العمل فهم يرفضون عمل من هم دون سن 18 عاما وفقا للقانون، بينما أنا أريد العمل في الكراج لمساعدة أمي وأبي في مصاريف الحياة.
رسوم الدراسة
في أحد الكراجات، تحدث الطفل يوسف مهنا قائلا: عمري 14 عاما ومضى على عملي في الكراج 6 أشهر تقريبا، وعلى الرغم من أن عملي كان في البداية هو تنظيف أرضية المحل بعد تصليح المركبات أو تبديل زيوت محركاتها، إلا أنني أصبحت أكلف مؤخرا بالقيام بأعمال أخرى تعلمتها، كتبديل قطع الغيار وغيرها.
سألناه عن الدراسة، فقال: لدي شهادة ثالثة ابتدائي، وقد توقفت عن الدراسة هذا العام بسبب غلاء رسوم الدراسة وعدم قدرة أهلي على دفعها، مشيرا إلى انه يحب الدراسة كثيرا، ويأمل في أن يعود إليها مجددا بعدما يجمع مبلغا من المال لدفعه مقدماً للمدرسة عند تسجيله فيها العام المقبل، خصوصا أن الشقة التي تستأجرها عائلته تقع مقابل المدرسة، ويرى أقرانه يتوجهون كل صباح إليها، بينما يهمّ هو بالذهاب إلى الكراج.
حمّال بضائع
في اليوم التالي، جُلنا على مناطق تجارية واستثمارية، فشاهدنا أطفالا يعملون في وظائف كثيرة ومتنوعة، بينهم حمالون في أسواق شعبية، يوصلون مشتريات الزبائن إلى سياراتهم، وبينهم بائعو أحذية وحقائب واكسسوارات.
تمكّنا من الحديث مع أحد الأطفال، ويعمل حمالا يوصل أغراض زبائن السوق إلى سياراتهم، وعلمنا أنه في الــ 12 من عمره، ويعمل على فترتين حاليا: صباحية ومسائية، براتب 100 دينار شهريا، بينما خلال الدوام المدرسي يداوم لفترة واحدة فقط بــ 50 دينارا.
استغلال
مواطنون أبدوا استياءهم وتذمرهم الشديدين من انتشار ظاهرة تشغيل الأطفال الصغار في البلاد في مهن كثيرة ووظائف مختلفة، خصوصا أن الدراسات أثبتت أن تشغيلهم ينعكس عليهم بآثار بدنية وصحية ونفسية بالغة، وطالبوا الجهات المعنية بمنع الأهالي وأصحاب الأعمال من تشغيل الأطفال تحت أي ظروف من أجل حمايتهم في هذه السن الغضة التي لا تحتمل فيها أجسادهم مشقة الأعمال التي يكلفون القيام بها.
وكشف المواطن جاسم العلي أن بعض التجار الذين يعملون في بيع الخضار والفاكهة بالبلاد، أصبحوا يرغبون في تشغيل الأطفال لديهم في بسطاتهم أو محالهم، والسبب تعاطف الناس معهم وقيامهم بالشراء منهم بشكل أكبر، كما يقومون أحيانا بإعطائهم «إكراميات»، مؤكدا أن ما يقوم به أولئك التجار يعتبر استغلالا للأطفال بتجاوز صريح للقانون، الهدف منه زيادة الأرباح.
حرمان
من جانبه، قال المواطن سعد العواد: تشغيل الأطفال في وظائف مختلفة حمالين أو بائعين، وحرمانهم من التعليم، من أبرز الظواهر السلبية التي انتشرت بين الوافدين في البلاد خلال السنوات الأخيرة، بسبب غلاء رسوم أغلب المدارس الخاصة العربية والأجنبية، ويخلق ذلك طوابير من الجهلة والأميين في المجتمع، مما ينذر بمشاكل كثيرة في المستقبل، مطالبا الجهات الخيرية بزيادة مساعداتها العينية والمادية للأسر الوافدة بالبلاد، خصوصا من تواجه منها ظروفاً مادية صعبة.
مخاطر
بدوره، يرى المواطن محمد الهذال أن عددا كبيرا من الأسر الوافدة، خصوصا العربية منها، تدفع بأطفالها إلى سوق العمل، بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي تواجهها مع تزايد متطلبات الحياة، وبلا شك فإن أولئك الأطفال عليهم مخاطر كبيرة، خصوصا أن أعمارهم صغيرة ولا يميزون ما ينفعهم عما يضرهم، ما يتطلب ضرورة تحرك الجهات المعنية للتصدي للظاهرة التي انتشرت بشكل لافت خلال الأشهر الأخيرة، حيث تسبب التهاون والتقاعس في التصدي لها في السنوات الماضية، في تفاقمها وانتشارها بشكل واسع.
شروط
من جهته، رفض المواطن عبدالله الظاهر وجهة النظر السابقة بمنع الجهات المعنية عمل الأطفال، وتحديدا من تجاوز منهم الـ 12 عاما، حيث يرى أنه يجب النظر إليهم من جانب إنساني، والسماح لهم بالعمل، شريطة أن يتناسب العمل مع أعمارهم وبنيتهم الجسدية، فهم يعملون لاحتياجهم المال، فظروفهم صعبة وبلدانهم تشهد صراعات مسلحة لا يستطيعون العودة إليها، فيعملون في الكويت ليصرفوا على أنفسهم أو يجمعوا رسوم مدارسهم واقاماتهم، مؤكدا أنه في حال منعهم من العمل فسيجد أولئك الأطفال أنفسهم في ورطة، فلن يستطيعوا توفير احتياجاتهم التي لا يستطيع أهلهم توفيرها، مما قد يجعلهم يجنحون إلى الجريمة.
«حماية الطفل»: يستعطفون بهم الزبائن
أكدت رئيسة الجمعية الوطنية لحماية الطفل د. سهام الفريح لــ القبس أن الكثيرين يظنون عدم وجود عمالة للأطفال في الكويت، وهذا الأمر غير صحيح، حيث إن الأمر موجود ومنتشر في أماكن كثيرة، من بينها منطقة الشويخ الصناعية.
وأعربت الفريح عن أملها في أن يسهم إقرار مجلس الأمة لقانون حقوق الطفل مارس الماضي، في حماية الأطفال بمختلف أعمارهم وجنسياتهم من الاستغلال، ووقف التجاوزات الراهنة في حقهم، ونحن نؤكد ضرورة قيام الجهات الحكومية المعنية بتطبيق القانون فعليا على أرض الواقع بعد الانتهاء من إعداد الصيغة التنفيذية له.
من جانبها، أبدت أمينة السر في الجمعية د. بلقيس النجار استياءها الشديد من انتشار ظاهرة عمل الأطفال في البلاد مؤخرا، لافتة إلى أن تشغيلهم في بسطات لبيع الألعاب والخضار في الشوارع والدوارات لاستعطاف الزبائن لكي يتوقفوا ويشتروا منهم، إذ ان منظرهم «يكسر الخاطر» وهم يبيعون تحت ظروف مناخية بالغة الصعوبة، مؤكدة أن الجمعية تبذل جهودا لحماية الأطفال في الكويت بمختلف فئاتهم وجنسياتهم من الاستغلال.
الكندري: الإسلام أمرنا برعايتهم
قال الداعية الشيخ عبدالله الكندري: الإسلام أمر برعاية الأطفال منذ ولادتهم وحتى بلوغهم، بحفظهم والاعتناء بهم، الذي يكون بعدم استغلالهم وتكليفهم فوق طاقتهم، وإتاحة التعليم المناسب لهم، وما نراه في الفترة الراهنة من تشغيل للكثير منهم في بسطات لبيع الألعاب والخضار في الشوارع تحت الشمس الحارقة أمر يخالف القانون، ويرفضه الدين، ففيه تكليف للأطفال في عمل فوق طاقتهم، ويسبب مشاكل صحية لهم، ويكونون عرضة للمشاكل، وعلى الدولة أن تعمل جهودها لحمايتهم ومنع تشغيلهم، إلى جانب تقديم الجهات الخيرية المساعدة الممكنة إلى ذويهم، الذين قاموا بتشغيلهم وفقا لظروفهم الصعبة.
النجار: البحث عن مبررات عملهم مع أسرهم
أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت د. غانم النجار أن هناك كثيراً من الاتفاقيات التي تنص بشكل قاطع على عدم تشغيل الأطفال في المهن الشاقة والمرهقة، والكويت ملتزمة وموقّعة على تلك الاتفاقيات، ناهيك عن أن القوانين المحلية والدولية تؤكد ضرورة حماية الأطفال من الاستغلال حتى يبلغوا السن القانونية.
وأضاف النجار ان على المسؤولين المعنيين أن يبحثوا عن الأسباب والمبررات التي دفعت الكثيرين من الأطفال من جنسيات مختلفة في البلاد للعمل في كراجات وبسطات وغير ذلك، عبر التواصل مع أسرهم لوضع الحلول المناسبة للمشكلة، بشكل يحمي الأطفال من أي مشاكل أو إصابات.
خريبط: تشغيلهم مسموح.. أحياناً
قال المحامي محمد خريبط إن عمالة الأطفال لها صورتان مختلفتان: الأولى هي عمل الأطفال مع آبائهم أو أشقائهم في بقالات أو محال تجارية وما شابه، حيث يعلمونهم أصول المهنة بكل أريحية وسهولة، ويعطونهم أجرا تشجيعيا عند اتقانهم لها، وهؤلاء يعملون ضمن ظروف صحية ونفسية مناسبة بلا تعب وإجهاد فوق طاقتهم، وعملهم لا بأس فيه، والثانية عملهم عند تجار في كراجات صناعية أو مجمعات تجارية برواتب شهرية، ويكلفون بالقيام بأعمال فوق طاقتهم، وهذا العمل مرفوض، وفقاً للقوانين المحلية والدولية، لما يسببه لهم من مشاكل بدنية وصحية ونفسية، ويجب على الجهات المعنية التصدي له، ومحاسبة ذويهم وأصحاب العمل الذين قاموا بتشغيلهم.
تفادي الموت في سوريا
قال أحد الأطفال السوريين الذين التقتهم القبس خلال جولتها، ويعمل في كراج للسيارات إنه اضطر الى تأدية هذا العمل الشاق، لكي يساعد أمه وأباه واخوته على مواجهة ظروف الحياة، من رسوم إقامة وإيجار شهري ومصاريف المدرسة وغير ذلك. وأضاف انه يفعل ذلك بكل ودّ، حتى يستطيع البقاء على قيد الحياة مع اسرته في الكويت، بدل العودة إلى بلدهم سوريا ويواجهون شبح الموت هناك.
طفل يكابد في تصليح الإطارات
عامل الكاشير.. في عمر الزهور