د. حمود العبدلي يكتب: نحو تصنيف جامعي عالمي جديد قائم على القيم الأخلاقية
درجة العادة ان تصنيفات المؤسسات الخدمية والإنتاجية تزود المجتمعات بنظرة ثاقبة لأدائها بما يمكنهم من الاختيار الأصوب بما يتفق مع مصالحهم، وتقف على رأس تلك المؤسسات الجامعات التي جدير بها العناية والاهتمام بالقيم والنزاهة كونها المعني الأول بصناعتها في المجتمع؛ ومن جهة توفر التصنيفات العالمية فرصة تسويقية جيدة لتعزيز ورفع هوية العلامة التجارية لمؤسسات التعليم العالي، وتوفر للجامعات الفرصة للمقارنة مع أقرانها.
كما تؤدي دوراً مهماً في التأثير على سياسة التعليم العالي، وتزويد الطلاب المحتملين وأولياء الأمور وقطاع الصناعة والتجارة بفرصة لاكتساب رؤى حول كيفية إثراء الجامعات لتجربة تعلم الطلاب، وفي حين أن نية التصنيفات نبيلة فإن الحقيقة هي أن المقاييس المعتمدة لتصنيف الجامعات لا يبدو انها تقدم اهتمام كافي بهذا الامر، بل وساد لزمن الاهتمام بقوائم التصنيفات كمؤشر لجودة أداء الجامعات، و للأسف تبنى هذا الاتجاه العديد من الباحثين في ابحاثهم كمقياس لجودة الأداء، كما تبنتها جامعات عريقة باعتبارها مقياس حقيقي لجودة الاداء ولا زال حتى اللحظة من يعتبرها كذلك.
وبالنظر للمعايير التي اعتمدتها جهات التصنيف تلك نجد انها غير منصفة وغير عادلة بل وغير اخلاقية ومضللة؛ فقد استندت في الأغلب إلى التميُز في الإنتاج البحثي للجامعات مما مكن الجامعات ذات القدرات البحثية العالية من حيث التمويل من السيطرة على المواقع المتقدمة في التصنيفات، مع ان البحث هو إحدى وظائف الجامعة وليس كل وظائفها، كما تستند معايير البحث هذه إلى منشورات باللغة الإنجليزية واهمال اللغات المحلية التي ربما انتاجها قد يفوق ما ينتج باللغة الإنجليزية من حيث الكم والكيف (الجودة) وله علاقة بتطوير النظرية والمعرفة والمجتمع اكثر من تلك المنشورة باللغة الإنجليزية، اضافة إلى معيار النشر في مجلات علمية محددة ربما تكون حكراً على باحثين ومؤسسات يصعب منافستها، واصبح التلاعب بهده المقاييس سمة بارزة في الآونة الأخيرة باعتبار التصنيف هدفاً للجامعات تهتم به اكثر من اهتمامها بتجربة تعلم الطلاب.
وبالتالي فليس من المستغرب أن نرى الجامعات ذات الميزانيات البحثية الكبيرة، ومعظمها غربية، تظهر سنويا كأفضل 200 جامعة الأولى، بينما تغيب جامعات ربما على قدر اعلى وفقاً لهذه المعايير ذاتها، وخلقت هذه المعايير عقبات غير واقعية أمام الغالبية العظمى من الجامعات للتغلب عليها من أجل التفكير في الحصول على مكان متقدم في تلك التصنيفات، مما جعل جامعة مثل جامعة كيوتو اليابانية Kyoto University لا تبدي رغبة المشاركة في التصنيفات لعدد من السنين.
فإذا اضفنا معايير التميز في التعليم والتعلم الخاصة بالمعلم والطالب وعلى وجه الخصوص ماله علاقة بمخرجات التعلم Learning Outcomes من مثل إلهام ريادة الأعمال، والابتكار، وخلق ثقافة ملتزمة بالاستدامة والنزاهة باعتبارها أدوار حيوية لأي جامعة تطمح إلى تأهيل خريجيها القادرين على مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع والصناعة والبيئة، فالملاحظ ان هذه التصنيفات اولتها عناية ضعيفة او تكاد تكون منعدمة؛ ويعزى أحد تلك الأسباب إلى صعوبة قياسها التي تجده جهات التصنيفات عذرا لها.
إلا ان هذه التصنيفات ومهما يكن الأمر بدون العناية بقياس مخرجات التعلم Learning Outcomes تبدو بالفعل مظللة بشكل كبير للطلبة وأولياء الأمور وارباب العمل والصناعة الذين يبدون في المقام الاول اهتمام بمهارات وقضايا تعلم اخرى اهم بالنسبة لهم من بينها مثلاً: إرشادات التقييم، وآفاق التوظيف، وجودة التغذية الراجعة، والمشاركة التربوية، والتركيز المؤسسي على النزاهة أكثر من اهتمامهم بجودة البحث والاستشهادات لكل أكاديمي بحسب استطلاع اجرته Globethics.
ومما يعيب تلك المقاييس ايضاً انها لا تبدي اهتمام بالقضايا التي تهم الطلاب، ولا تلخص تجربة الطالب الكاملة، ولا تشير إلى مستوى التحول في الجامعة لضمان بيئة تعليمية ثرية ترتكز على النزاهة والاستدامة، كما يراها Aftab Dean المسئول عن تصنيف الجامعات في Globethics.
إن ما يحتاجه ويركز عليه أصحاب العمل في الوقت الراهن هو تطوير مجموعة جديدة من المقاييس لتمييز أداء الطلاب في المهارات والقدرات التي تمكنهم من المنافسة في سوق العمل، وتساعدهم في التغلب على قدرات الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يغزو الوظائف التقليدية وبدأت مساحة سيطرته على الوظائف تزداد بمرور الأيام.
وبحيث تكون هذه المقاييس حافزا للتحول الإيجابي في التعليم العالي بما يضمن أن تحقق الجامعات هدفها الأساسي في بناء المجتمع وتطويره، وتخلق بيئة تلهم وتدعم كل من الطلاب والمعلمين في تطوير حلول جديدة لتحديات التعليم العالي الذي تفرضها تطورات التكنولوجيا والحياة أبرزها في الوقت الحالي تطورات الذكاء الاصطناعي، بعيداً عن مقايس التضليل العالمية التي ترتكز على مقاييس لا تلامس حاجة المتعلم واصحاب المصلحة الآخرين.
وتُمكن تطورات تحليلات التعلم، وأدوات الذكاء الاصطناعي المتدفقة يومياً من قياس مخرجات التعلمLearning Outcomes من المهارات والقدرات بصورة أفضل من ذي قبل بما يساعد المؤسسة نفسها اولاً في مراقبة ادائها وتقييم تطورها نحو تحقيق الأهداف التي رسمتها سلفاً؛ وثانياً تُمكن مؤسسات وجهات التصنيف من تقديم تصنيفات حقيقية ترتكز على مهارات وقدرات التعلم، واهتمام الطلاب واصحاب المصلحة الآخرين، ولم يعد هناك حاجة لممارسة التضليل بسبب صعوبة قياس مخرجات التعلم Learning Outcomes.
و تدعي Globethics انها تسعى إلى وضع نظام تصنيف عالمي أكثر مراعاة للمعايير الأخلاقية، تعكس الدور الحاسم الذي تلعبه مؤسسات التعليم العالي في تعليم الطلاب وفقا لقيم بناء مجتمعات عادلة وسلمية ومستدامة وشاملة، وتحديد مقاييس ذات قيمة حقيقية للطلاب اولاً ثم اصحاب المصلحة الآخرين؛ بدل المقاييس التي ترتكز على معايير تبدو مضللة وليست حقيقية وفق ما يطمح اليه اصحاب المصلحة.
Globethics هي منظمة دولية مقرها في جنيف سويسرا، وهي كما تصف نفسها عبارة عن شبكة عالمية لتعزيز الممارسات الأخلاقية في التعليم العالي ودعم الطلاب والمعلمين والمؤسسات في فهم وتطبيق الأخلاقيات على المستوى المؤسسي وأعضاء هيئة التدريس والفرد.
وهنا ننصح:
– جامعاتنا الموقرة لا داعي للهث وراء سراب التصنيفات لتضليل المجتمع انطلاقاً من أديباتنا كمسلمين فهو كما تراه Globethics عمل مضلل وغير اخلاقي.
– الاتجاه نحو مزيد من تحسين مخرجات التعلم Learning Outcomes، ووضع معايير المناهج والبيئة التعليمية التي تلبي الحاجة الاجتماعية وتطورات الحياة والسعي بجد لتحقيقها.
كما نوصي: وزارة التعليم العالي
– بوضع تصنيف محلي يخصها يعزز وجهات نظر اصحاب المصلحة (الطالب المعلم اولياء الأمور وارباب العمل) حول كيفية إثراء التعليم العالي لتجارب التعلم، ويشجع الجامعات على التفكير في كيف يمكن للقيم والأخلاق والاستدامة أن تحول بيئة التعلم والعمل للطلاب والموظفين ذات العلاقة بالتنمية والتطور الاجتماعي.
– تبني تحليلات التعلم والذكاء الاصطناعي كثقافة اولاً؛ ثم كممارسة ثانياً لقياس مخرجات التعلم Learning Outcomes الذي تجعل اصحاب المصلحة واولهم الطلاب واصحاب العمل على بينة من جودة التعليم العالي التي هي مسئولة أمام المجتمع وأمام الله عن جودته.
ذلك خير مقاما وأفضل صُنعا من اللهث وراء تصنيف عالمي غير اخلاقي ولا سبيل للمنافسة عليه مع كبرى الجامعات إن سلمنا بنزاهته.