كتاب أكاديميا

ورقة التوت سقطتْ فالْتقطْتُها..بقلم: د. فلاح محمد فهد الهاجري

إنَّ العمل التطوعي وإن أحسن باذله وأوجر ناويه بالنية الصالحة إن صحّت، فإن الفطنة في هذا العمل هي عمود قوامه وصنوانه الذي يتفرع منه ويجتمع فيه، والناس كالسيول تشقُّ مجاريها فمنها ما يحيي الأرض الميتة ومنها ما يدمِّر الطرقات، وإن الأراضي التطوعية منها العامر ومنها القاحل، ومنها ما تقحّل بعد عمران طويل، ولعل العمل النقابي الحرّ من أصعب الفروع التطوعية والذي تقحّلت أرضه حتى بقيت فيه شجرة التوت وحيدة صامدة تحكي لمن يأتيها أمجاد سالفيها، ولعلّ هذه الشجرة الصالحة قد شاخت وكبرت حتى تجنّبتها سيول بني آدم حتى أَتَيْتُها مُثخن الجراح لأستضل تحت ما بقي من أغصانها العارية فناظرتني بظلِّها الحاني المتقطع من أشعة الشمس وأعواد غصونها، مشيرةً إلى قلبي قائلةً: أتدري ما وصل إليه حال الناس في أرضنا يا أبا محمد؟ قلت لها أضعت نفسي بين الغدو والرواح وأنت ساكنة منذ الزمن الغابر تحوم حولك الطيور فتخبرُكِ فخبِّريني ما الذي وصل إليه حالهم، فأشارت إلى قلبي مستعيذةً مما يصيب بني آدم من العجز مع القدرة والذي شنّعوه الشعراء بقولهم:
وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ
وهنا أستذكر ما قاله الأستاذ الدكتور عبدالله سهر في مقالته عندما غامر بقلبٍ قوي هو ورفاقه الدكتور إبراهيم الحمود والدكتور أحمد الرفاعي شافاه الله وعافاه في عام 1996 عندما طالبوا بكادر الأساتذة لرفع معاشاتهم فساومتهم الإدارة الجامعية على مقدار زيادة 10% فرفضوا ثم على 20% فغضبوا، حتى تمّت الموافقة على مقدار 90%، والشاهد هنا أنّ السلامة العاجلة هي الركون لأي مبلغٍ ابتغاء مرضاة الناس، والنجاحات القاصرة عن التمام المطلوب، كما حدثت في جمعية أعضاء هيئة التدريس في هذا العام من طلبنا للزيادة في مقدار شعب الفصل الصيفي بمقدار 100% فوافقت الجمعية عند أول منعطفٍ في تفاوض الإدارة الجامعية وعمادة القبول لها بمقدار 20% وهذا المنعطف هو الاختبار الأول لفريق قائمة “التميّز” في الجمعية والخسارة أصبحت مدّوية ثقيلة جدًّا على كاهل أعضاء هيئة التدريس، حيث آثرت السلامة العاجلة بفتاتٍ يُعطى لها، على الغنيمة التي لا تأتي إلا بصلابة الموقف كما حدث معنا بزيادة 100% في العام الماضي عام 2022م.
ولعلّ هذا الفريق يظنّ أن الهيئة التدريسية غافلة عن هذا المشهد غير مدركة لهذا القصور في المفاوضات، وإنّي استذكر ما فعلته القائمة الأكاديمية المستقلة في عملها التطوعي في الفترات السابقة بقيادتها للجمعية كحال الناظم عند قوله:
لَعَلَّهُ إنْ بَدا فَضْلِي ونَقْصُهُمُ لِعَيْنِهِ نامَ عَنْهُمْ أو تَنَبَّهَ لي

فلا بد للزمان من انتباهة للفضلاء أعضاء الأكاديمية المستقلة بعد رقاده عنهم بتجربة غيرهم، وما الجمعية إلا سيفاً يدافع فيه المرء عن حقوق ومكتسبات زملاءه الذين صانوه وقدّموه وعقدوا الأمل بصوته الذي لا يخشى في الله لومة لائم ولا تغريه المناصب والحظوات، ولا يلتفت إلا لصالح زملاءه فتكون آماله آمال صحبه من زميلاته وزملاءه كما قال الناظم أيضاً:
أُعَلِّلُ النفْسَ بالآمالِ أَرْقُبُها ما أَضْيَقَ العَيْشَ لولا فُسْحَةُ الأمَلِ
ولكن لسان حالي يقول لزميلاتي وزملائي بعد أن تمسّكت “الأغلبية البسيطة” في جمعية أعضاء هيئة التدريس بزمام الأمور دون جدوى مذكورة وبعد انزلاقها في المنعطف الأول “منعطف الـعشرين بالمئة” حيث تكّونت تحالفاتهم الثلاثية كحال الناظم:
وعَادَةُ النَّصْلِ أنْ يُزْهَى بِجَوْهَرِهِ ولَيْسَ يَعْمَلُ إلّا في يَدَيْ بَطَلِ
فآهٍ لما حصل في جمعيّة العلماء وكوكبة الفقهاء والنجباء وأصحاب العقول المتعلمة، وما أقول وقد كنّا على رأسها واليوم نمثّل فيها الأقلية المناضلة المدافعة المساهمة إلا كقول الطغرائي في لاميّته:
لم أَرْتَضِ العَيْشَ والأيامُ مُقْبِلَةٌ فكيف أَرَضَى وقدْ ولَّتْ على عَجَلِ
وها أنا تحت ظلّك يا شجرة التوت ذات الورقة اليتيمة في أرض التطوع لا أملك إلا نفسي التي تتوق للعلا وحب الخدمة للناس والبحث عن المصلحة العامّة فبماذا تعاتبين أخ الجماعة، فأومأتْ إليَّ بظلالها قائلة: ما حالك إلا كلسان حال الناظم الطغرائي:
تَقَدَّمَتْنِي أُناسٌ كانَ شَوْطُهُمُ وَرَاءَ خَطْوِيَ إذْ أَمْشِي على مَهَلِ
هذا جَزاءُ امْرِئٍ أَقَرانُهُ دَرَجُوا مِن قَبْلهِ فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الأَجَلِ
وإنّي لك يا أبا محمد ناصحة بالصبر والثبات ففي مثلك قيل:
قَد رَشَّحُوكَ لأَمْرٍ إنْ فطِنْتَ لهُ فَاْرْبَأْ بِنَفْسِكَ أنْ تَرْعَى مع الهَمَلِ
ثمّ أوصتني بالعمل الدؤوب وعدم الاستسلام والإكثار من المشورة، وقالت لي ألا تعلم ما قال الأرجانِّي في نظمه؟ قلت لها، لا، فأومأت قائلةً:
شَاورْ سِواكَ إذْ نابَتْكَ نائِبَةً يومًا وإنْ كُنْتَ مِن أَهْلِ المُرُوءاتِ
فالعَيْنُ تَنْظُرُ مِنْهَا ما دَنا ونَأَى ولا ترى نَفْسَها إلا بِمِرْآةِ
ثم ختمتْ بقول النبي صلى الله عليه وسلم  “لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل”، فالأمل خُلُقٌ جُبِلَتْ عليه النفوس، وما غرّ ابن آدم إلا طول الأمل والقبر صندوق العمل، وأوصتني ثانيًا بإحياء الأراضي التطوعية وأخص بها النقابيّة الحرّة وأن أزرع مكانها بعد موتها شجرة أخرى تروي حكاياتها، وبعد ذلك سقطت ورقة التوت فالتقطتها ثمّ التفتُّ ثانيةً إلى الشجرة وإذ بها لفظت أنفاسها.

بقلم: د. فلاح محمد فهد الهاجري
أستاذ السياسة الشرعية بجامعة الكويت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »

Thumbnails managed by ThumbPress

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock