كيف يتحول التداول في سوق الأسهم لقصف عشوائي يصيب أحياناً ويخطئ غالباً؟
“احذر تأثير الثلاثة” .. هذا هو أحد أكثر التحذيرات والتنبيهات شيوعاً في سوق الأسهم عالمياً، حيث ينبهون المتعاملين إلى أن مرورهم بثلاثة أيام متتالية من الخسائر أو 3 أيام متتالية من المكاسب قد يكون مؤثرًا على “اتزانهم” ويدفعهم لأخذ قرارات خاطئة بالبيع أو الشراء أو الاحتفاظ.
ويعكس هذا التحذير حقيقة أن مستثمرين كثيرين يدخلون سوق الأسهم دون خطة واضحة ومستقرة، ربما يكون لديهم بعض التصورات لكنهم لا يملكون خطة متكاملة للمستويات السعرية التي عليهم الشراء أو البيع عندها والأسهم التي يحتفظون بها باستمرار للحصول على أرباحها أو حتى كاستثمار سلبي قليل المخاطرة.
بلا خطة
ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث مع العملة الرقمية البيتكوين خلال العامين الماضيين؛ حيث سجلت الأخيرة مستوى قياسياً يتخطى 68 ألف دولار في نوفمبر 2021، قبل أن تتهاوى وتخسر أكثر من 75% من قيمتها خلال أشهر، حتى أنها بلغت قاعًا سعريًا دون 16 ألف دولار فقط بعد عام بالضبط من تسجيلها القمة السعرية أي في نوفمبر 2022.
ويرجع هذا إلى إقبال العديد من “صغار المستثمرين” على شراء البيتكوين مع منحناها الصاعد، دون خطة واضحة للمستوى السعري الذي يجب البيع عنده، ومع انهيار السعر بسبب تغير الظروف الاقتصادية وقوة الدولار الأمريكي خسر الكثير منهم جزءا كبيرًا من رؤوس أموالهم.
وفي سوق الأسهم تكشف الدراسات أن السوق الصاعد يخدع الكثير من المستثمرين، حتى أن 70% ممن يتعاملون في السوق لا يتحسبون لتراجعه، بل يستمرون في الشراء سعيًا لتحقيق أرباح أكبر، بما يؤكد أيضًا غياب الخطة الواضحة لدى المستثمرين.
وبشكل عام تشير دراسة أمريكية لجامعة “شيكاغو” إلى أن قرابة 85% من المستثمرين لا يمتلكون خطة واضحة في سوق الأسهم، بل لا يملكون تصورات عن أي الأسهم “جيد” ويمكن الاستثمار فيه وأيها يجب تجنبه، ويتركون قراراتهم الاستثمارية لتتشكل بالكامل وفقا للتغيرات المستمرة في السوق.
ولا يعني هذا أنه لا ينبغي على المستثمر الاستجابة لتطورات السوق، لأن “الجمود” وعدم الاستجابة للتطورات ستكون نتيجته خسارة الأموال بالتأكيد، ولكن رد الفعل هنا يجب أن يكون بـ”تحديث” الخطة التي يبني عليها المستثمر وتعديلها، أي أنه يجب أن تكون هناك خطة بالفعل.
المضاربون في صدارة الخاسرين
ولغياب الخطط تأثير سلبي للغاية على المتعاملين في الأسواق، ولعل أبرزه ما توضحه الإحصائيات بأن 10% فحسب من المضاربين يتمكنون من تحقيق أرباح، في ظل دخول غالبية المتعاملين في الأسواق إليها سعيًا لتحقيق الربح الكبير، واتخاذ قرارات خاطئة بالبيع والشراء والاحتفاظ مع غياب التخطيط الجيد.
وفي المقابل ترتفع النسبة الرابحة من “المستثمرين”، ويقصد بهم هؤلاء الذين يشترون الأسهم بغرض الاحتفاظ بها لفترات زمنية طويلة نسبيًا، إلى 85%، لأن هؤلاء يقومون بدراسة واضحة ووافية لعدد من الشركات ويترقبون توقيتات واضحة للتحركات في السوق.
ويعكس هذا أن غالبية من يدخلون إلى الأسواق يستهدفون “ربحًا سريعا” دون مجهود كبير، وهو تصور خاطئ للغاية، يتسبب في خسارة أكثر من 90% من المتعاملين لأموالهم (يعكس هذا الأمر أيضا أن الغالبية الكاسحة من المتعاملين هم مضاربون وليسوا مستثمرين).
وبتصفح غالبية الأسماء الشهيرة في سوق الأسهم حاليًا وتاريخيًا، نجد أن الغالبية منها هم من المستثمرين وليسوا من المضاربين، وهو ما يؤكد الإحصاءات سالفة الذكر، ويشدد على أهمية وضع خطط طويلة المدى للاستثمارات.
الاستثمار بـ”الشعور”
ويعكس ارتفاع السوق الأمريكي خلال عامي كورونا ثم عودته للتراجع غياب الخطط الاستثمارية لدى الكثير من المتعاملين، حيث إن 50% من الوسطاء في السوق الأمريكي ظهروا خلال آخر 5 أعوام و30% خلال آخر عامين بما يعكس تهافتًا سريعًا من المشترين والوسطاء فقط بسبب ارتفاع السوق وليس بسبب وجود خطة استثمارية واضحة المعالم، بما أدى لسوق صاعدة أولا أعقبها هبوط حاد لا سيما في أسهم التكنولوجيا.
وتكشف دراسة أمريكية أن ثُلث المتعاملين في الأسواق يدخلون إليها وفقا لما “يشعرون به”، ويأتي هذا الشعور نتيجة لآرائهم الشخصية عن فرص نجاح أو فشل بعض الشركات أو حتى انطباعاتهم الشخصية عن منتجات تلك الشركات، بما يجعل الحكم ذاتيًا وبعيدا تماما عن المعايير الموضوعية.
كما أن 70% من المتعاملين تقريبًا هما إما مستثمرو ظل، أي أنهم يرون ما يفعله مستثمر كبير ويقلدونه، والأزمة هنا أن تحركاتهم تكون متأخرة بعد تكشف تحركات المستثمر الكبير، أو مستثمرون “بالسماع” أي أنهم يحصلون على نصائح جاهزة من أي جهة دون أن يبذلوا شخصيًا جهدًا في البحث والتحري.
وهنا يجب التنويه على أن دراسات عدة أشارت إلى تأثير سلبي للغاية لوسائل التواصل الاجتماعي في هذا الأمر، حيث يستقي 70-85% من رواد تلك المواقع حاليًا غالبية معلوماتهم منها، وهو أمر ينعكس على كافة مناحي الحياة بما في ذلك أسواق الأسهم بالتأكيد.
أموال “زائدة عن الحاجة”
ولغياب الخطة الاستثمارية تأثيرات سلبية للغاية على المستثمر، لعل من بينها ما تشير إليه دراسة لمجموعة “دالبار” الأمريكية العاملة في الاستشارات المالية والاقتصادية إلى أنه عادة ما يخسر “المستثمر العادي” أكثر في السوق الخاسر، ويربح أقل في السوق الصاعد.
والمثال على ذلك أن مؤشر “ستاندرد أند بورز” الأمريكي انخفض 4.38% في عام 2018، بينما خسر المستثمرون العاديون 9.42% من أموالهم في البورصة خلال العام نفسه أي أكثر من ضعف خسائر المؤشر الرئيسي.
وفي المقابل فإنه عندما يصعد السوق لا يحصل المتداولون المبتدئون إلا على 40% فقط من الأرباح التي يحصل عليها السوق، فعندما يرتفع السوق 5% في عام تزيد رؤوس أموال “المستثمر العادي” 2% فقط في العام نفسه.
وتحذر الكثير من الدراسات من تأثير تجار “الفوائض المالية” على أسواق الأسهم، وتقدرهم بحوالي 60% من المتعاملين في سوق الأسهم الأمريكية على سبيل المثال، ويقصد بهم هؤلاء الذين يحصدون أموالهم من مجالات عمل أو استثمار أخرى ويقررون استثمار جزء من أموالهم “الزائدة عن الحاجة” في سوق الأسهم.
فهؤلاء يتعاملون في سوق الأسهم بلا خطة واضحة وبأسلوب أقرب للرهان والمقامرة مما هو للاستثمار أو حتى المضاربة التي يهتم فيها المضارب بالتحليل الفني، ولا يقتصر الأثر السلبي على خسارة غالبيتهم للأموال في السوق إن عاجلًا أو آجلا، ولكن يمتد ليشمل تضخيم بعض أسعار الأسهم بشكل مبالغ فيه مما يمثل ضررًا عامًا يتعدى الضرر الخاص الذي يصيبهم.
والشاهد أن وضع خطة استثمارية في سوق الأسهم تشمل العديد من العناصر، أبرزها المبلغ المُستَثمر، وفي أي الأسهم يتم استثمار الأموال، وكيفية توزيع المخاطر، ووضع مستويات واضحة للبيع والشراء، وغيرها من العوامل، ومن دون دراسة واضحة لتلك العناصر فإن التعامل في سوق الأسهم يكون بمثابة “قصف عشوائي” يصيب أحيانًا، ويخطئ غالبًا