ترقيات أكاديمية كرتونية
لا يمكن لأية مؤسسة تعليم عال ان تحترف اعداد خريجين مؤهلين للانخراط في سوق العمل دون تبني منظومة متكاملة للادارة الرشيدة، منظومة تتقن قراءة المتطلبات الحالية والمستقبلية لسوق العمل وتجيد استثمار امكانياتها البشرية والمادية وتحسن استقطاب عملائها وارضائهم، منظومة تتمحور حول مفهوم اداري يدرك العلاقة، الديناميكية والمتبادلة، بين اركان واضلاع مربع العملية التعليمية: المعلم والتلميذ والمنهج وسوق العمل، كل ضلع فيه يؤثر ويتأثر بالآخر من المربع المستمر في التغير وبوتيرة متسارعة متناغمة مع تطور المجتمع المحلي والعالمي، فعضو هيئة التدريس يسعى لتنمية معارف ومهارات واخلاقيات طلبته من خلال تنمية ذاته وقدراته في استحداث وتطوير وتقديم برامج ومناهج دراسية تراعي مستوياتهم وتسابق متطلبات سوق العمل، والى جانب هذه العلاقة غير المباشرة بين الدكتور الاكاديمي وسوق العمل، هناك علاقات مباشرة بينهما تتجلى في الاستشارات والدورات التدريبية وايضا في البحوث التطبيقية، لذلك تجد أن مهام الدكتور تمتد خارج دائرة تدريس الطلبة، لتشمل تطوير ذاته ومتابعة مستجدات سوق العمل وخدمته وخدمة المجتمع المرتبط جغرايا بالجامعة والمجتمع الاممي فضلا عن العمل كعضو أو رئيس في فرق ووحدات ادارية على نطاقات مختلفة ابتداء من لجان واقسام وانتهاء بالادارة العليا للمؤسسة التعليمية.
وعملا بمبدأ الترشيد الاداري عبر تكليف الاكاديميين بمهام تتوافق مع كفاياتهم الادارية والاكاديمية، تلجأ الجامعات الى وضع معايير كمية ونوعية للمفاضلة بين اعضائها في توزيع المهام الادارية، وتستعين بلجان محايدة، وقادرة على قياس المرشحين وفق تلك المعايير، لتزكية مجموعة من الاعلى جدارة ليتم تكليف احدهم لاحقا من قبل مديري الجامعات أو رؤساء مجالس ادارتها، على الرغم من ان هذه المنهجية اثبتت كفاءتها في جامعات الدول المتقدمة الا انها ثبت عدم صلاحيتها لجامعات تعاني من «الاعاقة» في علاقاتها مع سوق العمل والمجتمع، العديد من المناصب الادارية في الجامعات الناجحة طاردة بالنسبة لمعظم الاكاديميين لسببين رئيسيين اولهما صعوبة ادارة جامعة ناجحة بشكل يضمن استمرار نجاحها ويدفع لارتقائها، والسبب الآخر هو توفر مسارات غير ادارية للتميز والتكسب المادي والمعنوي ومنها استثمار روابط الجامعات مع اسواق العمل، اما في الجامعات المعاقة فالعلاقات مع اسواق العمل معدومة أو ضعيفة أو فردية، واستثمارها مليء بالمثبطات والمعوقات، كما ان الجامعات المعاقة، في علاقتها مع اسواق العمل، لا يمكن ان تكون مؤسسات ناجحة وادارتها ليست الا عملا روتينيا ومسألة وقت مليء بالوجاهة، لذلك مسار المناصب الاشرافية اكثر جذبا في الجامعات المعاقة عما هو الحال في الجامعات المتميزة.
في بعض الجامعات المعاقة جاذبية المناصب الاشرافية تضاعفت مرارا مع اقرار مزايا مالية كبيرة لمتقلدي تلك المناصب، للاسف هذه المزايا اضرت كثيرا بالعديد من المبادئ الاكاديمية وضربت ما كان متبقيا من المكانة الاكاديمية لتلك الجامعات في مقتل، وان تظاهرت بخلاف ذلك وواصلت في بهرجتها الاعلامية واستمرت في استقبال طلبتها وطالباتها ثم تخريجهم في حفلات مهيبة، هذه المزايا المالية اوجدت تجمعات نفعية «شللية» باتت تنافس التجمعات الحزبية التي كانت متسلطة على مفاصل ادارة الجامعات المعاقة، فكان ان وظفت الاطراف المتنافسة وعززت قيماً غير اكاديمية كالطائفية والعنصرية في سباقها لاقتناص المناصب الاشرافية، هذه التجمعات، الناشئة والعريقة، فجرت في تنافسها ولم تستثن أي محور، اكاديميا كان ام غير اكاديمي، في صراعها على المناصب الاشرافية الجاذبة، وكانت الترقيات من اوائل الثوابت الاكاديمية واكثرها تضررا في هذا الصراع نظرا لثقلها في المفاضلة بين المرشحين للمناصب الاشرافية، فازدهرت صناعة البحوث المزورة وخططت التكتلات لاستملاك القرار في لجان الترقيات لتكتمل حلقات المسلسل التراجيدي «ترقيات كرتونية»، فنجد ترقية كرتونية تستكمل دورتها المستندية في اشهر قليلة في مقابل ترقيات نموذجية تعرقل لما يزيد على خمس سنوات، الابحاث الكرتونية ترسل لمحكمين عرب أو من اصول عربية واما نخبة الابحاث فيسعى لرفضها فترسل لمحكمين في ارقى الجامعات العالمية، مجلات مزعزعة تعتمد للنشر فيها وترفض مجلات عريقة من دور نشر رائدة، تقبل طلبات ترقية تنقصها شهادات مطلوبة صراحة في لوائح الترقيات، وترد طلبات مستوفية جميع المتطلبات اللائحية بعذر نواقص غير مذكورة في اللوائح ولكنها موجودة فقط في مخيلة بعض اعضاء لجان الترقيات، يصادق على توصيات ترقية من لجان ترقيات تضم في عضويتها اصحاب طلبات الترقية واما توصيات ترقية مستحقة فتحفظ في ادراج من لا يملكون ذلك الحق، بل ان في الاجتماع الواحد تنقلب المعايير بين طلبين متتاليين فيصبح الواجب مستحبا والمستحب واجبا، واما الآفة الكبرى فتتمثل في تغافل مديري تلك الجامعات عن الفساد المستفحل في ملف اكاديمي بأهمية الترقيات وتهربهم عن دورهم الطبيعي في استئصال الفساد.
هناك المزيد من صور الفساد في ملف الترقيات، لكنني لا اجد حاجة لعرضها لأنني جازم بأن ما ذكرته كفيل بإيضاح مدى استشراء الترقيات الكرتونية في الجامعات المعاقة، لا شك أن هكذا فساد متجذر وتصعب مواجهته الا من خلال تكليف اساتذة، ممن ليس لديهم طموح اداري ولا انتماء حزبي، للعمل ضمن فريق، يتبع مديري الجامعات مباشرة، للتدقيق الاكاديمي واللائحي على اعمال لجان الترقيات ولجان تظلمات الترقيات، كما يفترض ان يقدم الفريق النصح والارشاد لتعزيز معايير النزاهة والشفافية في عمل تلك اللجان دون الاضرار بمبدأ سرية عملها، ومن ابرز سلوكيات الشفافية المنشودة توثيق جميع الاجراءات في قواعد بيانات يمكن الرجوع اليها فقط من قبل المفوضين عند الحاجة، ومن اهم اجراءات تعزيز النزاهة تنقيح وتحديث لائحة الترقيات ومذكرتها التفسيرية لتضيق هامش النصوص الهلامية، من جانب آخر، قد يضطر المديرون للاستعانة بمدققين من خارج الجامعات المعاقة في تشكيل الفريق، أو قد يتطلب الامر تكليف جهة وطنية محايدة ومستقلة، مثل الجهاز الوطني للاعتماد الاكاديمي وضمان جودة التعليم، لاصدار لائحة ترقيات اكاديمية موحدة للجامعات الحكومية ثم ادارة وتنفيذ مهام الفريق المقترح للتدقيق الاكاديمي واللائحي.
لا ادعي أن ما اقترحه سيقضي تماما على الترقيات الكرتونية، ولكنني واثق من ان تبنيه بالصورة الصحيحة سيعيق كثيرا تمرير طلبات ترقية كرتونية، ولا ننسى دور الوازع الاخلاقي واهميته في القضاء على الظاهرة المعيبة للجامعات بجميع منتسبيها الحاليين والسابقين من طلبة ومن اعضاء هيئة التدريس فضلا عمن حصل أو من يسعى للحصول على ترقية اكاديمية، كرتونية.
د.عبداللطيف بن نخي