سعد العجمي يكتب: الفتوة في الإسلام
الفتوة في الإسلام
سعد بن ثقل العجمي
أستاذ الثقافة الإسلامية في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب الكويت
(مدرب أ)
الحمد لله الذي جعل منهاج الفتوة واضح الجوانب، يؤول ويرشد إلى كل حسنٍ واجب، ونزهها عن الفواحش والمعايب، ورقاها إلى أعلى المراتب، وارتضى لها من أنبيائه المرسلين، وأصفيائه المقربين، كل من كتب اسمه على صفاء لوح الصدق، وبان له طريق الحق، فقام بواجبه، ودام جالساً على مراتبه.
أما بعد:
الفتوة في اللغة:
قال ابن منظور في لسان العرب مادة (فتا) الفتاء: الشباب. والفتى والفتية: الشاب والشابة، والاسم من جميع ذلك الفتوة، انقلبت الياء فيه واوا.
وخالفه القتيبي فقال: ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال، يدلك على ذلك قول الشاعر:
إن الفتى حمال كل ملمة، … ليس الفتى بمنعم الشبان
وقال الآخر:
قد يدرك الشرف الفتى، ورداؤه … خلق، وجيب قميصه مرقوعُ
وقال الزمخشري في أساس البلاغة: هذا فتيٌّ بيّن الفتوة وهي الحرية والكرم.
ونقل عن عبد الرحمن بن حسان قوله:
إن الفتى لفتى المكارم والعلى … ليس الفتى بمغملج الصبيان
وقال آخر:
يا عزّ هل لك في شيخٍ فتًى أبداً … وقد يكون شبابٌ غير فتيان
وقال المرتضى الزبيدي في تاج العروس: (والفتوة) (الكرم) والسخاء، هذا لغة؛ وفي عرف أهل التحقيق أن يؤثر الخلق على نفسه بالدنيا والآخرة.
وصاحب الفتوة، يقال له: الفتى.. ومنه: قول الشاعر:
فإن فتى الفتيان من راح واغتذى
لضر عدو أو لنفع صديق
الفتوة في القرآن الكريم:
وردت مشتقات لفظة الفتوة في القرآن الكريم عشرَ مرات بصيغ مختلفة ، منها قوله تعالى عن قوم إِبراهيم: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
وقال تعالى عن يوسف عليه السّلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} ، {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ} .
وقال سبحانه عن أصحاب الكهف: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى..)
قال الإمام القرطبي المالكي: وقوله تعالى: (إنهم فتية) أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى. وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا، لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.
قال المفسر ابن عجيبة: إ(ِنَّهُمْ فِتْيَةٌ)، شبان كاملون في الفتوة آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، (وَزِدْناهُمْ هُدىً) بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء.
إشكال والجواب عليه:
زعم بعضهم أن مصطلح الفتوة لم يرد في الكتاب والسنة وكلام السلف وقالوا أن الأولى عدم استعماله!
قال الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز – وكلامه يصلح في الرد عليهم:
الفُتُوَّة منزلة حقيقتها منزلة الإِحسان وكفّ الأَذَى عن الغير وَاحتمال الأَذى منهم. فهي في الحقيقة نتيجة حُسْن الخُلُق وغايته. والفتوّة إِنَّما هى استعمال الأَخلاق الكريمة مع الخَلْق. وهى منزلة شريفة لم يعبَّر عنها في الشريعة باسم الفتوّة، بل عُبّر عنها باسم مكارم الأَخلاق؛ كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “إِنَّ اللهَ بعثني لأتمم مكارم الأَخلاق”
أما القول بأن الأولى عدم استعماله لعدم ثبوته عن السلف رضي الله عنهم.. فمثل هذا القول ليس حجةً تصلح للاستدلال، ففهم السلف وعدم استعمالهم لبعض المصطلحات ليس دليلاً على منع استعمالها لمن بعدهم، فالسلف لم يستعملوا مصطلحات كثيرة استُحدثت بعدهم كمصطلحات علم العقيدة وعلوم النحو والصرف وغيرها، ولم يمنع عدم استعمالهم العلماءَ الكبار بعدهم من استعمالها
والزعم أن سلف الأمة رضي الله عنهم لم يتكلموا بهذه المصطلحات ومعانيها محض افتراء عليهم..
فقد ثبت أن أقدم من تكلم في مصطلح الفتوة سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه ، ثم الفضيل بن عياض، ثم إمامنا إمام أهل السنة الإمام أحمد وسيد طائفة العارفين الإمام الجنيد
فقد سئل سيدنا جعفر الصادق عن الفتوة فقال للسّائل ما تقول؟ قال. إِن أُعطيت شكرت، وإِن مُنِعت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال: يا ابن رسول الله فما الفتوّة عندكم؟ قال: إِن أُعطينا آثرنا، وإِن مُنِعنا شكرنا.
وقال الفضيل: الفتوّة: الصّفح عن عَثَرَات الإِخوان. وسئل الإِمام أَحمد عن الفتوّة، فقال، ترك ما تهوَى لما تخشى. وسئل الجنيد عنها فقال: أَلاَّ تنافِر فقيراً، ولا تعارض غنيًّا.
وقال السفاريني الحنبلي رحمه الله: (الْفُتُوَّةِ) كَرَمِ النَّفْسِ وَتَخْلِيصِهَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْمُومَةِ إِلَى الْأَوْصَافِ الْمَمْدُوحَةِ،
وقال العلامة الدسوقي في حاشيته على أم البراهين: الفتوة هي التجافي عن مطالبة الخلق بالإحسان إليه ولو أحسن اليهم، لعلمه بان إحسانه اليهم وإساءتهم إليه كل ذلك مخلوق له تعالى، والله خلقكم وما تعملون، فلم ير لنفسه إحساناً حتى يطلب عليه جزاء، ولم ير لهم إساءة حتى يذمهم عليها، اللهم إلا أن يكون الشرع هو الذي أمر بذمهم أو معاقبتهم، فيفعل حينئذ ما أمر به الشرع ليقوم بوظيفة التعبد فقط، وهذه الفتوة هي فوق المسالمة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.