الدكتورة بوربالا ميفسود تكتب: فيروس كوفيد-19 ومناعة القطيع
رغم اعتماد دول العالم للعديد من الاستراتيجيات في مكافحة فيروس كوفيد-19، إلا أن القليل منها أثار الكثير من الجدل والنقد مثل استراتيجية مناعة القطيع. ويمكن تحقيق هذه المناعة عندما يكتسب عددٌ كبيرٌ من السكان مناعة ضد الأمراض المعدية، إما عن طريق التطعيم أو المناعة الطبيعية بفعل التعرض للفيروس، وهو ما يعني احتواء الحالات الجديدة ومنع تفشي الفيروس.
وتعتمد نسبة السكان المطلوبة لتحقيق مناعة القطيع إلى حدّ كبير على مدى عدوى العامل المُمرِض، أي قابلية الفيروس للانتشار، وعدد المرات التي يلتقي فيها الشخص المصاب بالفيروس بشخص آخر معرض لخطر الإصابة به، أي متوسط معدل الاحتكاك، والمدة التي يكون فيها الشخص المصاب بالفيروس معديًا. وتُحدد هذه القيم معدل التكاثر الأساسي، أي عدد الأشخاص الذين يصيبهم كل شخص مصاب بالعدوى ضمن السكان المعرضين لخطر الإصابة بالفيروس. وطريقة احتساب هذا الرقم ليست دقيقة، حيث يختلف العدد باختلاف السكان، لأن بعض خصائص السكان يمكن أن تؤثر على قيمة أو أكثر من القيم سالفة الذكر. فعلى سبيل المثال، تكون قابلية انتشار فيروس كوفيد-19 أعلى في الثقافات التي تتطلب أنماط التحية فيها الاحتكاك الجسدي بين الأفراد، مع ملاحظة ارتفاع متوسط معدل الاحتكاك الجسدي في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
وعادةً ما يُحدد معدل انتشار مسببات الأمراض برقم يشير إلى انتشار الفيروسات وتكاثرها. ويصل متوسط تكاثر فيروس SARS-CoV2، وهو الفيروس التاجي الذي يتسبب في حدوث كوفيد-19، إلى حوالي 3 أشخاص، وهو رقم يتفق مع معدل العدوى الذي رُصِد في الصين ومعظم الدول الأوروبية في بداية انتشار الفيروس. ويعني وصول عدد التكاثر إلى 3 أنه في بداية انتشار الفيروس كان احتمال تسبب كل شخص مصاب بالفيروس في إصابة الآخرين بالعدوى يصل إلى ثلاثة أشخاص في المتوسط. ومع ذلك، وصل هذا العدد إلى 10 أشخاص أو أكثر في مدينة نيويورك، والمناطق الأخرى عالية الكثافة.
وينخفض عدد التكاثر بشكل طبيعي لدى السكان عند ارتفاع عدد الأشخاص المتعافين من فيروس كوفيد-19، وبالتالي يكون هناك عدد أقل من الأفراد المعرضين لخطر الإصابة بالفيروس. ويُعرف هذا باسم رقم التكاثر الفعال الذي ينظر بعين الاعتبار إلى نسبة السكان المعرضين لخطر الإصابة بالفيروس. وتهدف معظم الدول إلى تحقيق رقم أقل من إصابة واحدة، وهو ما يعني انخفاض عدد الحالات النشطة. وهناك تدابير للصحة العامة يمكن أن تؤثر على كل عامل من العوامل المساهمة في انتشار الفيروس، وتساعد في الإبقاء على رقم التكاثر الفعال عند مستوى أقل من إصابة واحدة. فعلى سبيل المثال، يمكن تقليل قابلية الفيروس للانتشار باستخدام وسائل الوقاية الشخصية مثل الكمامات. ويمكن كذلك تقليل معدلات المخالطة عبر تطبيق إجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، مع انخفاض مدة العدوى عند علاج المرض في الوقت المناسب، وتطبيق تقنية تتبع مخالطي المرضى المصابين بالفيروس.
وقد وصلت العديد من الدول إلى رقم تكاثر فعال أقل من حالة إصابة واحدة، وهو ما يعني تراجع الأعباء التي يفرضها انتشار فيروس كوفيد-19 عليها. ومع ذلك، لا يعني هذا أن سكان تلك الدول قد اكتسبوا مناعة القطيع. ويعتمد شرط اكتساب هذه المناعة على معدل انتشار الفيروس، ويعني وصول معدل الانتشار إلى 3 حالات إصابة ضرورة امتلاك 70% من سكان العالم تقريبًا لمناعة ضد فيروس كوفيد-19 من أجل تحقيق مناعة القطيع.
وفي ضوء ذلك، كيف يمكن تحقيق مناعة القطيع إذا ما أرادت بعض الدول القيام بذلك في إطار جهودها الرامية لمكافحة فيروس كوفيد-19؟ في حالة عدم وجود لقاح فعال، سيتعين على الناس تطوير مناعة طبيعية من خلال التعرض للفيروس، وهو ما يعني أن ما يقرب من 5.5 مليار شخص سيحتاجون إلى الإصابة بالفيروس، وهو هدف قد يؤدي حتمًا إلى وقوع عدد هائل من الوفيات. وإذا كنا نرغب في تحقيق مناعة القطيع من خلال الانتشار البطيء للفيروس، من المتوقع أن يتسبب ذلك في حدوث ما يقدر بنحو 19 مليون حالة وفاةً بفعل الإصابة بالفيروس وفقًا لأكثر معدلات الوفيات تفاؤلاً، وهي نسبة 0.35%. ويتطلب ذلك أيضًا الوصول الكافي إلى أنظمة رعاية صحية لم يثقلها الفيروس بالأعباء. ومع ذلك، كانت معدلات الوفيات بفعل فيروس كوفيد-19 أعلى بكثير في المواقع التي تكافح فيها المستشفيات لعلاج جميع المرضى بالفيروس، وهو ما يعني ضمنيًا أن إجمالي عدد الوفيات المطلوب لتحقيق مناعة القطيع عبر التعرض للفيروس يمكن أن يصل إلى أضعاف الرقم سالف الذكر.
لهذه الأسباب مجتمعة، من الواضح أن تحقيق مناعة القطيع عبر التعرض للفيروس لا يُعد إجراءً وقائيًا، ولا يجب اعتباره استراتيجية مناسبة لمكافحة فيروس كوفيد-19. ولكن هذا لا يعني أن مناعة القطيع لا يمكن تحقيقها باستخدام لقاح فعال. وتجدر الإشارة إلى أن معدل الطفرات الوراثية لفيروس SARS-CoV2 أقل بكثير من المعدل الذي سجلته الإنفلونزا الموسمية، ويمكن مقارنته ببعض الفيروسات الأخرى التي تصيب الحمض النووي وتوجد لقاحات فعالة لمكافحتها. وسوف تتكلل الجهود العالمية الرامية لتطوير لقاح فعال لمكافحة الفيروس بالنجاح، لكن هذا الأمر سيستغرق بعض الوقت.
وحتى ذلك الحين، نحتاج إلى إبقاء رقم التكاثر الفعال عند مستوى أقل من حالة إصابة واحدة لتجنب حدوث موجة ثانية من العدوى. ومع ذلك، يخشى الخبراء من أن يقفز متوسط معدل الاحتكاك مرة أخرى مع قيام الدول بإعادة فتح حدودها وأعمالها بعد الإغلاق. لذلك، من المهم تعزيز التدابير التي تحد من انتقال العدوى وتقلل مدتها، وهي ارتداء وسائل الوقاية الشخصية، واستخدام تقنية تتبع مخالطي المرضى، وعزل الأشخاص المصابين بفيروس كوفيد-19. وإذا التزمنا جميعًا بإجراءات التباعد الاجتماعي، فسوف نتمكن بالتأكيد من إبقاء هذا الفيروس تحت السيطرة.
- تشغل الدكتورة بوربالا ميفسود منصب أستاذ مساعد بكلية العلوم الصحية والحيوية في جامعة حمد بن خليفة.