محمد بن عبدالله الأحمدي يكتب: البحوث المختلطة والتصورات الفلسفية في البحوث الإنسانية
إنَّ الجدل المحتدم بين أنصار المذهب العلمي (الوضعي) أو المذهب التفسيري (البنائي) تحت مسمى حوار المنطلقات الفلسفية (حرب البرادايم) مرَّ بحقبة زمنية ظهرت في الأوساط العلمية، ويصعب تحديد زمن قطعي لبدايتها ونهايتها بالرغم أنَّ المتعارف عليه في الأوساط التي تحاول تناول هذه المسألة يشير إلى عقدي الثمانينات والتسعينات وقد تكون هي المرحلة الذهبية لذلك الصراع في العلوم الإنسانية. ولكن محور تركيزها حول محاولة إضعاف مذهب الفلسفي معين على حساب أخر بالتشكيك في منطلقاته الفلسفية، وعدم مقدرته على تقديم الحقيقة في العلوم الاجتماعية بشكل دقيق، وباتا يتناقشان من طرفي نقيض، ولكن أصبحا اليوم واقعاً ملموساً في البحوث العلمية في عدة مجالات ومن ضمنها العلوم الإنسانية.
وقد اعتبرت الفلسفة ذات أهمية في التأثير الاجتماعي لا تقل بذلك عن أهمية الأسلحة في الجيوش فبهذه العبارة افتتح العالم مارتن هامرسلي (Martyn Hammersley) الذي خاض مرحلة حرب المنطلقات الفلسفية مقالته الشهيرة التي يُعزى لها نشأة مصطلح حرب البرادايم (The Paradigm War)، واستعار العديد من المصطلحات القتالية ليعبر عن المرحلة الصعبة التي تعيشها المرحلة الحرجة في تاريخ التحولات البحثية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فيضيف في ذات المقدمة القول بأنَّ الجندي بحاجة لمعرفة الحقيقة حول نتائج السلاح الفتاك الذي سيستخدمه وبها ستزيد ثقته في القتال. وبشكل مماثل فإنَّ العلماء في العلوم الاجتماعية قللوا من قوة أهمية الفلسفة في المناهج البحثية، وقد تشكل حقل مناهج العلوم الاجتماعية البحثية من خلال العديد من الفلسفات في المئة سنة الماضية (Sharma,2010).
وتجدر الأهمية لتناول المنطلقات الفلسفية للعلوم الاجتماعية بشيء من الإيضاح للقارئ بحيث يتعرف على أصول الاختلاف بين أنصار المذهبين الفلسفيين المتناقضين، وانبثاق المذهب الفلسفي الثالث الذي جمع بينهما منطلقاً من المعرفة Epistemology) التي تسهم في تشكيل الوجود (Ontology) وتخدم التطبيقات العملية للمعرفة في الواقع.
فالمنطلق الفلسفي العلمي (Positivism) والذي تم تطويره إلى العلمي الحديث (Post-positivism) ليتناسب مع العلوم الإنسانية من حيث تقليل الجزم القطعي في الواقع، بالإضافة إلى أن المعرفة التي تنتجها البحوث العلمية في العلوم الاجتماعية محل تساؤل جدلي من حيث مدى قطعيتها. وأنَّ الملاحظة تتأثر بمنطلقات ومعارف الملاحظين أنفسهم، فيصعب عزل التأثير الخفي الذي يعد طبيعة بشرية. فعلى سبيل المثال: قد يلاحظ شخصين مختلفين ومن زاويتين مختلفتين السلوك الملاحظ ويفسرانه كل بناء على ما ثبت له من حقائق وفقاً لخبرات ومنطلقات ومعتقدات ذلك الملاحظ. وأنّ من الصعوبة عزل تأثير القيم المعرفية، والنظريات التي يتبناها الملاحظ، والخبرات التي يمتلكها، والمفاهيم السابقة، والتصورات سواء المقصودة أو غير الواعية عن الظاهرة المدروسة. وبهذا تطور العلمية إلى العلمية الحديثة في العلوم الاجتماعية ومنها التربوية.
عموماً يشير التصور الفلسفي العلمي إلى إثبات الحقائق بالطريقة المخبرية العلمية بدلاً من الأفكار المجردة والادعاءات العامة. وبالتالي فإن السعي لتحويل هدف البحث إلى واقع وحقيقة ملموسة مستقلة عن الأفكار الإنسانية المجردة أو غير المثبتة على الأقل، ودون تأثير القيم البشرية على تلك الحقيقة المنتجة مما يحتم بمصداقيتها وموضوعية الوصول لها حين العودة لمحاولة إنتاجها. فمن هذا المنطلق الفلسفي الذي استمد من العلوم المادية كالفيزياء والفلك والكيمياء ونحوها فإن المعرفة التي ينتجها البحث تعد من وجهة نظر أنصار المذهب العلمي متفوقة وذات قوة جوهرية في موضوعيتها. فالفلسفة العلمية (Positivism) ترى بأنَّ المعرفة تنتج من الملاحظات المباشرة، والقياس المخبري للظواهر، واختبار الافتراضات المبدئية للوصول للمعرفة بإثبات الافتراضات أو دحضها وفقاً للبيانات. وبالتالي فإن السر يكمن في استكشاف القانون الذي يحكم تلك المعرفة وحين الوصول إليه فإنه يمكن امتلاك زمام الحقيقة. وقد تأثرت بها العلوم الاجتماعية ممثلة في المدرسة السلوكية التي تتناول الظواهر الإنسانية من منظور علمي يقولب السلوك الإنساني في قوالب محددة وتخضع المعرفة والسلوك الإنساني للاختبار العلمي المخبري، وقد أفرزت هذه الفلسفة العلمية عدة نظريات في المجال الإنساني، فمنها على سبيل المثال في العلوم التربوية نظرية سكانر Skinner Theory في علم النفس التي جعلت السلوك البشري هو عمل موجة يتم التحكم فيه في ظل إجراءات وشروط الإثارة وحين التحكم في المثيرات فإن النتائج (الاستجابة) ستتبعها (المثير والاستجابة).
وقد أورد (Sharma,2010) بأن الفلسفة العلمية ترتكز على خمس مرتكزات علمية رئيسية وهي:
- الواقع حقيقي وموضوعي، ومستقل عن التصور الفردي،
- الظاهرة التي لا يمكن ملاحظتها مباشرة أو غير مباشرة فإن لا مكان لها من البحث،
- المعرفة العلمية تنتج من تكامل، وتراكم الحقائق التي تم التحقق منها،
- العلم يعتمد على المدخل الاستنتاجي بحيث تشتق الافتراضات من النظريات العلمية ويتم اختبارها أمبيريقياً،
- ولتحقيق الموضوعية في البحث يتطلب تحييد قيم الباحثين.
وبناء على هذه المنطلقات الفلسفية، فإن التفكير الإنساني، والمشاعر، والاعتقادات، والخصائص الإنسانية والشخصية، واللغة، ومظاهر التواصل والتفاعل البشري مع البيئة ونحوها من القضايا قد لا يراها وتؤمن بجدواها هذه الفلسفة، ولذا نفت مبدأ ما وراء الطبيعة لصعوبة إخضاع هذه الظواهر للاختبار والقياس المخبري. وعليه فقد عطلت الاجتهاد الفكري الفردي الإنساني، فالفكر الإنساني بطبعة التطوّر والنمو حين التعرض للخبرات والتجارب فالفكر بالفكر ينضج والحجة بالحجة تقوى، وليس الحاجة لاختبار الوقائع شرط لإنتاج المعارف. فمصادر المعرفة متنوعة في العلم، ومتعددة في الفلسفات المختلفة، وحصرها في مجال إثبات التحقق، أو نفي الافتراضات هو تضييق على الواسع. ويضيف في ذات السياق، (Sharma,2010) بأنه قد يكون من غير المنطقي أن تكون النظريات مصدر للافتراضات التي تؤدي للحقيقة دون الأخذ بأنَّ المعرفة نسبية، وقد تتشكل من خلال مجموعة من العوامل المختلفة كالعوامل الثقافية والاجتماعية، والتفسيرات للظواهر التي بمجملها تؤدي إلى معرفة نسبية غير قطعية وهذا الأمر يتناسب مع الفكر البشري الطبيعي. ووفق لهذا المنظور فإن المعرفة إنتاج المعرفة وتطويرها يتطلب لمدخلين متنوعين الاستنتاجي والاستقرائي ليتم الوصول إلى أقصى درجة من درجات المعرفة المنتجة من التفاوضات والاختبارات فبالعودة للنظريات الإنسانية التي تعتمد عليها الفلسفة العلمية قد يتضح بأنها اعتمدت على تجارب شخصية، ومعتقدات فكرية قد انبثق معظمها من رؤى عقدية لقراءة الوجود، وواقع الكون والعالم، وتفاوضات مشتركة بين العلماء قبل الوصول لملاحظات الدقيقة والوصول لروابط شكلّت متغيرات تلك النظريات ليتم وضع قانون يحد من المعارف المختلفة ويؤطر للحقيقة المراد التسليم بها بشكل على الأقل مؤقت في الظروف المنتجة فيها، وبمدى الإدراك البشري الذي تمثل في معايير القياس لتلك الملاحظات بالطريقة الاستنتاجية التي تبدأ من الكل إلى الجزء، كما أن السلوك يصعب فيه عزل المثير عن الاستجابة بشكل موضوعي قطعي دون التدخل الإنساني في الملاحظ ذاته، فالقيم والثقافة والعوامل الاجتماعية والنفسية تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في التأثير على الملاحظ ذاته وإن سعى لاستخدام وسائل للقياس العلمي. فبمجرد ملاحظة إيفان بافلوف الروسي لقانون الارتباط الشرطي الذي سبقه دراسات علمية تبنت المنظور الفلسفي العلمي كدراسة عمليات الهضم لدى الكلب، ودراساته لكميات اللعاب الذي يفرزه الكلب عند تقديم الطعام له. وبالتالي فإن العلاقة التي نشأت لمعرفة خصائص الحيوان جراء الدراسات المتتابعة عليه والاستناد بنتائج البحث العلمي فإن توصل لقانون المثير والاستجابة الشرطية والتي قد تكون صالحة في حالة الاستعداد للاستجابة ومدى الحاجة للمثير فعند عدم حاجة الكلب للطعام فبالتأكيد بأن القانون عديم الفائدة والذي حاول تداركه جزء منه تحت مسمى قانون الكف الداخلي الذي يوحي بقلة الاستجابة حين عدم تقديم المثير الشرطي بتعزيز مناسب. وأعتقد أن هذا الأمر يختص بالسلوك الحيواني الذي قد لا يمتلك القدرات العقلية التي تميز بها الإنسان دون سواه من المخلوقات. فعلى الرغم من أن الكائنات الحية تبني معارفها وفق لمثيرات دخيلة تجعلها تتروض لذلك المثير، وتعطي الاستجابات المصاحبة والمراد تحقيقها للتعايش مع الواقع المراد لها، وقصر التفكير الإنساني في الوصول للحقائق التي تبني عليها الكائنات المعارف، ومحاولته الربط بشكل علمي تجريبي للتنبؤ بالسلوك ولكن هذه الأمر يختلف مع الإنسان الذي يمتلك مقدرة عقلية وعمليات تفكير منتجة للمعرفة في ذاتها من خلال عملية التفكير وميكانيكية تقدير المواقف التي تتحكم في الاستجابة الإنسانية.
وهنا ظهرت المرحلة الثانية من مرحلة المنطلق الفلسفي العلمي إلى المنظور الفلسفي العلمي الحديث الذي وإنْ اتفق مع سابقة في الواقع المفرد، واختلافه في إن المعرفة الذي ينتجها غير كاملة وغير مطلقة، وأنَّ تحقيق تلك المعرفة بحاجة لتعدد سبل الملاحظة والملاحظين. وإنه من الصعب تحديد طريق للوصول للحقيقة المطلقة في العلوم الإنسانية، وأن التعددية في الوصول إلى المعرفة تحل المشكلة المدروسة التي قد تتحقق بمداخل متعددة. ويرى (Sharma,2010) أن من المسلم به أن من جانب القوة في طريقة ما هو استخدامها لنقاط الضعف في الأخرى. ومن أبرز الفوارق بين الفلسفتين المرتبطتين هي اعتماد العلمية الحديثة على نظرية التشكيك (التخطئة) Falsification بدلا من نظرية اليقينية التأكيدية للافتراضات Verification المعمول بها في العلمية الحقيقية. وبالتالي فإن مبادئ الفلسفة التفسيرية قد لاح في الأفق البحثي بالتسليم بدور الباحث وما يحمله من معتقدات وقيم قد تلعب الدور في عملية الملاحظة للظواهر المدروسة، بأخذ العوامل الديموغرافية، وتحديد سياق التثليث، وإيضاح زاوية الملاحظة بعين الاعتبار كعوامل قد تؤثر على الاستنتاجات، مما قلل حدة النزعة للتعميم، ومحاولة تحديد نطاقها وفق للظروف والعوامل المختلفة التي قد تشير في شيء منها إلى أن الظاهرة الإنسانية قد تكون فريدة من نوعها وزمن حدوثها والظروف الدافعة لها.
ويتضح مما ورد أعلاه رغم التمهيد للمنطلق الفلسفي التفسيري الذي تجاهلته العلمية والعلمية الحديثة في إنتاج المعرفة والوصول للحقيقة، فإن في ذاتها دعوة لظهور البحوث المختلطة التي تجمع المداخل المتعددة لتنتج معرفة مبنية على رؤى متعددة للحقيقة التي سأتناولها بالتفصيل عند الحديث عن النظرة للحقيقة والواقع والمعرفة في البحوث المختلطة بالتفصيل في مقالات لاحقة. وهو أيضاً اعتراف خفي بما تلعبه القيم الإنسانية والمعتقدات الذاتية في عملية الوصول للحقيقة. كما ظهر أول دعوة لمبدأ التثليث أو التعددية (Triangulation)التي أصبحت لاحقاً سمة من سمات المذهب التفسيري (البنائي (في البحوث الكمية. فظهور التصور الفلسفي (النموذج) التفسيري الذي أعاد للتفكير الإنساني القوة في تحديد الوجود، والمعرفة، وجعل منطلق المعنى منطلقاً فكرياً إنسانياً. فالمعاني لا تكتشف بل تبنى من خلال الفكر الجمعي للناس. وبطبيعة الحال فالتعددية سمة البشر وبهذا تعدد التصور للوجود والواقع والحقيقة بدلاً من الواقع الخارجي المفرد الذي اعتنقته العلمية والعلمية الحديثة. وقد ذهبت هذه الفلسفة إلى أنّ إدراك الحقيقة ذاتي مختلف من فرد إلى أخر. وأنًّ المعرفة يصعب عزلها عن التصور الإنساني المدرك لها، فهي بإدراكه لها تكتسب معناها المحلي أحياناً، وقد منحت الباحث الصلاحية بأن يكون جزء من البحث كوسيلة تدير المعرفة وتحاول ضبط محتواها في سياقها الطبيعي، وإيضاح ذلك الدور للباحث في إجراءات وصفية وعملية توضح للقارئ الصورة التي نشأت منها المعرفة المنتجة. وبسبل متعددة أشرت لها في بحثي المنشور بعنوان “معايير جودة البحوث النوعية في البحوث الإنسانية”. وقد اعتمدت هذه الفلسفة على الأجزاء المتمثلة في المعلومات الموجودة لدى الأفراد لتنطلق منها إلى الكليات. فالانطلاق من الملاحظات، إلى التصنيفات ومن ثم الأنماط العامة حتى تشكيل الافتراضات الأولية ومن ثم النظرية في بعض الأحيان في عملية تسمى بالعملية الاستقرائية (Inductive Approach).
وقد استفادت البحوث المختلطة من الجمع بين المدخلين العلميين في إنتاج المعرفة الاستنتاجي والاستقرائي تحت مظلة مدخل حديث يجمعهما بالتردد بينهما حتى ينضج المعرفة الحقيقية يدعى بالمدخل الاستردادي (Abductive Approach). فالأحداث المفاجئة وغير المتوقعة وبناء افتراضات أولية حول الظاهرة المدروسة والتي انبثقت من الخبرة والمعارف السابقة للباحث، والسعي لاختبارها والتحقق منها، واستخدام أدوات جمع البيانات المختلفة الكمية والنوعية وبمراحل متعددة سواء متواكبه أو متتالية للوصول للمعرفة والنتيجة الفعلية التي تدعم الافتراضات الأولية قد استظلت بمظلة المدخل الاستردادي الذي يدعم البحوث المختلطة. فعلى سبيل المثال التوضيحي: فالضابط الجنائي الذي بنيت لديه خبرات متراكمه حول اكتشاف خيوط القضايا والوصول للحقائق، وبهذا تشكل لدية معرفة من الخبرة. فعند مباشرته لقضية مفاجأة له، يسعى لوضع عدة افتراضات بناء على الملاحظة والمعطيات المتوفرة بالمكان، ثم يرتبها وفقاً لقوة الأدلة الداعمة لها مبدئياً ومن ثم يقوم بجمع البيانات بطرق متعددة كالاختبارات للبصمات، والعينات الملتقطة من المسرح (كميـة)، وإجراء المقابلات مع الشهود، مراجعة السجلات والوثائق، وتحليل الفيديوهات والتسجيلات، وكتابة الملاحظات والمذكرات حول ذلك (نـوعية).. إلخ في عملية ترددية بين المداخل الاستنتاجية والاستقرائية حتى يتحقق الوصول للحقيقة النهائية باكتشاف السبب، والمتسبب في القضية. وباختصار هذا جزء مما تقوم به البحوث المختلطة بشكل مبسط للباحث المبتدئ.
محمد بن عبدالله الأحمدي
كلية التربية بجامعة بيشة + جامعة اكستر البريطاني@alahmadim2010