ا. سعد العجمي يكتب :خطورة الفتوى وتعدد مناهجها
أ .سعد بن ثقل العجمي (عضو هيئة التدريب)
من نعم الله على هذه الأمة المحمدية أن ارتضى لها شريعة الإسلام طريقةً ومنهاجاً، ثم جعل هذه التشريعات السماوية تقوم بمهمة عظمى من التنظيم الشامل، والضبط الكامل لسلوك البشر تسديداً وتصويباً، والإنسان من حيث هو عبدٌ لله، فإنه مطالب بأن تكون أفعاله البشرية موافقةً للأحكام الشرعية امتثالاً لما عبر عنه السادة الفقهاء من أنه لا يحل لامرئ أن يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.
ومن أجل هذه الغاية السامية، شرع الله الفتوى، ليجيب من خلالها من أقامهم الله في مقامات العلم والتعليم، على سائر تساؤلات وإشكالات الناس الباحثين عن حكم الله فيما يستجد عليهم من وقائع وأحداث، لا يعلمون فيها ما الصواب وما خلافه.
كذلك فإن للعلوم الشرعية التأصيلية مكانة كبرى في تاريخ الأمة، حيث كانت رافداً عظيماً من روافد نهضتها الفكرية والتي كان لها الانعكاس الواضح على نهضتها الحضارية.
وقد كان على رأس هذه العلوم الشرعية التي تفتق منها العقل العربي واتسعت آفاقه وأصبح قادراً من خلالها على خوض غمار الفكر بتمكن واقتدار شديدين.. ألا وهو (علم أصول الفقه).
هذا العلم الشريف الذي يمثل في حقيقته بناءً معرفياً تاماً يحتاج إليه الفكر الإنساني بما يحتويه من أسس منطقية وأصول كلامية وقواعد لغوية، تُنظم العقل، وتصقل مداركه وتمكنه من الفهم بشكل سليم صحيح، فضلاً عن حاجة أرباب العلم الشرعي إليه طلاباً ومجتهدين، كونه علماً بالأدلة الشرعية الإجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد، مما يجعل هذا المستفيد ـ المجتهد ـ بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
هذه المهمة الاستنباطية الجليلة هي أداة المفتين على مر العصور، وعليها مدار مناهجهم، ومن ثمراتها نتائج قرائحهم واجتهاداتهم، فعلم أصول الفقه الإسلامي هو العلم المؤهل لبحث مناهج الإفتاء في كل العصور.
إن الأمة الإسلامية وعلى مر العصور كانت ولازالت لها مناهجها العلمية في الإفتاء، هذه المناهج ممثلة بمذاهبها الفقهية المعتبرة، المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، هذه المذاهب الأربعة التي ارتضتها الأمة حكاماً ومحكومين، وتعبدوا الله باجتهادات أئمتها الأكابر، وكان عليها المعول في أمور القضاء وأحكام السياسة الشرعية والمعاملات المالية وغيرها، وهي القائمة بأعباء التصدي للنوازل الفقهية المستجدة، وسبب قيامها بهذه المهام الجسام، هو احتواؤها على المناهج العلمية المنضبطة، وهي مناهج قد بنيت بناء راسخاً على أصول وقواعد ، شيدها كبار علماء الأصول المنتسبين لهذه المذاهب الفقهية المعتبرة.
أما اليوم فقد نبتت في الأمة نوابت، وخرجت مناهج، تنكبت لتلك المناهج العلمية، بل وناصبتها العداء، فاستحدثت مناهج جديدة في الإفتاء تتأرجح بين التشدد المقيت الخارج عن حد التسامح والرحمة الذين عليهما مبنى التشريع الإسلامي، وبين التساهل والتمييع الذي يخرج عن حدود الشريعة فيحوم حول حمى الشبهات ويرتع فيها.
والغريب أن هذه المناهج المُحدثة نجد أنها تعتمد اعتماداً يكاد أن يكون كلياً على (نتاج) هذه المناهج المعتبرة، بل وتقتات على ثمرات عقول أئمتها واجتهاداتهم، في الوقت الذي تتنكب فيه لهذه المناهج الأصيلة، بل وترميها وأتباعها بشتى المفتريات من القول بجمودها أو تخلفها وعدم صلاحيتها للواقع الجديد، وترمي المنتمين إليها بالتعصب والجهل!
من هنا كان ولا بد على أرباب العقول، وأخدان العلوم أن يمعنوا النظر في هذه المناهج الإفتائية الأصيل منها والمستحدث، وينظروا إليها نظرةً فاحصةً ناقدة، فيبحثوا في نشأتها ومراحلها التاريخية ثم ينظروا إلى أصولها التي بنيت عليها مناهجها، ثم أثر هذه المناهج على واقع حياة الناس وما فيها من إيجابيات وسلبيات، حمايةً لحمى الشريعة، وصيانةً لها عما يكدر صفوها، ويشوهها، أو ينسب لها ما هي منه براء.
ففي الحديث النبوي الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين).